الجمعة، 30 أبريل 2021

شوقي رائد المسرحية الشعرية في أدبنا العربي الحديث


 





المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على المصطفى خير المرسلين، وشفيع العالمين، والشكور لربه والمتعبد له طوال الأيام والسنين، الذي أدى رسالته على أتم حكمة وموعظة وإرشاد وبرهان وفصاحة وأخلاق وبر حتى علا هذا الدين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد:

فقد كلفت بعمل بحث كإجراء لنجاحي بإذن الله في مادة (الأدب المقارن)، ولقد منّ دكتور المادة على طلابه باختيار موضوع واحد من عدة مواضيع لعمل البحث.

ولقد قمت باختيار موضوع (شوقي رائد المسرحية الشعرية في أدبنا العربي الحديث) بحثا عما عداه لأهميته؛ فكيف بي أغفل عن هذا الرجل صاحب الفضل على أدبنا العربي هكذا دون أن أبين فضله؟

ولقد اخترت بعد كتابي الدراسي كتاب (الأدب المقارن للدكتور محمد غنيمي هلال) وكتاب (آفاق الأدب المقارن عربيا وعالميا للدكتور حسام الخطيب) مراجع لي لإثبات بعض الفوائد والأحكام.

ولقد كان منهجي في هذا البحث أخذ المسائل الهامة فقط من مراجعي ومصادري عما عداه، وعدم أخذ أي حشو يطيل من البحث وهو ما لا يجوز لنا في هذا المقام، وأكثرت من الاهتمام في عرضي للموضوع بأن لا أخرج عن دائرة البساطة، فقدمت ما كان حقه التقديم وأخرت ما حقه التأخير وقد ذكر في مراجعي على غير هذا المنوال، وأظهرت شخصيتي في البحث فلعلها تلقى قبولا.

وقسمت البحث إلى ثلاثة مطالب: بداية رحلة شوقي في تأليف المسرحيات الشعرية – مظاهر تأثر شوقي في أعماله المسرحية ومجموع فوائد – الحكم على شوقي، وأتبعت ذلك كله بخاتمة.

وأسأل الله العظيم أن ينفعني بهذا البحث وأن ينفع قارئه وأسأل من الله القبول.

شوقي رائد المسرحية الشعرية في أدبنا العربي الحديث

المطلب الأول: بداية رحلة شوقي في تأليف المسرحيات الشعرية

(أحمد شوقي) كان شاعرا، وقد أرسله الخديوي توفيق في بعثة لمدة أربع سنوات ليدرس الحقوق، وحثه على أن يمعن النظر في دراسة معالم الحضارة والثقافة الفرنسية.

وكانت فرنسا في ذلك الوقت سيدة المسارح الكلاسيكية خاصة وغير الكلاسيكية كالرومانتيكية والواقعية عامة، فكان يُعرض في باريس روائع المسرحيات الكلاسيكية، وكانت هذه المسارح تحت رعاية الدولة، وقد اتسعت شهرتها في معظم دول العالم، وكانت شعرية.

وكان شوقي يتردد على مسرح "الكوميدي فرانسيز"، في باريس وشاهد ما يمثل عليه من روائع الأدب التمثيلي الكلاسيكي والرومانتيكي والمعاصر، ومن هنا كان تأثره بالكلاسيكية في عصر الرومانسية، وأولع بهذا الفن ولعا شديدا، فضلا عن أن المسرحيات الكلاسيكية كانت شعرية فبدهي أن تصادف هوى شوقي، فهو شاعر في المقام الأول ولذا تأثر بها فأراد أن يحاكيها فنظم مسرحياته شعرا، فوضع وهو لا يزال يطلب العلم بباريس أولى مسرحياته وهي "علي بك الكبير" وأرسلها إلى السراي، ولكنها لم تصادف هوى السراي، وكان ذلك في سنة 1893، فلما تغيرت الظروف السياسية في سنة 1927 أعاد صياغتها، ثم كتب بعدها كليوباترة، مجنون ليلى، عنترة، قمبيز، أميرة الأندلس، والست هدى.

وكان تأثره بالكلاسيكية تلقائيا بعيدا عن أية فلسفة أو تمذهب، إذ لم يكن قد سبر المذاهب الأدبية حتى يتوجه إليها أو ينتقي منها عن وعي وتعمد، وإلا لكان مثلا قد تقيد في مسرحه بكافة الأصول الكلاسيكية، ولكنه أخذ منها ما يصادف هواه، وبصورة عفوية.

فأفضى ذلك التأثر إلى تداخل تيارين في مسرحه أحدهما شرقي يمثل الذات العربية، والآخر غربي يمثل قراءاته ومشاهداته ألوانا من هذا الفن في فرنسا. (1)

ومما سبق يتبين لنا كما قال معلمي (أ.د/ طلعت صبح السيد) في محاضراته لنا:

أن مسرحيات الشاعر (أحمد شوقي) احتلت الريادة الإبداعية في هذا اللون، وأنه كان للكلاسيكية الفضل في استبيان هذا اللون المسرحي في أدبنا المعاصر.

المطلب الثاني: مظاهر تأثر شوقي في أعماله المسرحية ومجموع فوائد

قد تمثل تأثر شوقي في ثلاثة مظاهر هي: الحبكة، والنزوع إلى التاريخ، والصراع.

فضلا عن أنه اتخذ الشعر أداة للتعبير في خمس مسرحيات من تأليفه، وفضلا عن مسرحيته الكوميدية "الست هدى"، كما أنه قصر البطولة على الملوك والأمراء الذين هم أصلح للتراجيديا.

ويطيب لنا أن نعرض لتلك المظاهر وهي مشاهدة في مسرحياته، فنفهم إذا تمسك شوقي بتلك المظاهر أم لا.

أولا: بالنسبة للحبكة.

وهي الآلية التي من خلالها يتم تحديد الحوار ورسم الشخصيات توصلا إلى الهدف المقصود.

وهي وفقا للقواعد الكلاسيكية، لا تتم إلا من خلال الوحدات الثلاث.

أما عن وحدة الموضوع: فشوقي لم يلتزم حرفيا بوحدة الموضوع، بل كثيرا ما أضاف على موضوعه الأصلي موضوعا ثانويا أو أكثر، ولم يوفق في ربط الموضوعات الثانوية بالموضوع الأصلي ولا في استخدامها على نحو يساهم في تحديد معالم الشخصيات أو تعزيز الأثر العام للمسرحية.

وعلى سبيل المثال أضاف شوقي في مسرحية كليوباترة قصة حب بين "هيلانة" وصيفة كليوباترة، وبين تابعها المصري "حابي"، مع القصةٍ الأساسية في مسرحيته والتي بطلاها "أنطونيو" و "كليوباترة".

ولن تكاد تجد ما يربط بين هذين الموضوعين، بل ربما أضعفت هذه الإضافة من تأثير الموضوع الأصلي.

وبذلك يتبين لنا أن وحدة الموضوع تحمي المسرحية من الترهل.

وبالنسبة لي – الطالب، كاتب البحث – "أراها أنها تحتاج لمهارة عند استخدامها"؛ فشكسبير على سبيل المثال قد خرج بإضافته عقدا جانبية إلا أن هذه الإضافة ساعدت على دعم العقدة المحورية في المسرحية.

ولم يوفق شوقي كذلك في كتابة خاتمة بعض مسرحياته كالتي نراها في مسرحية "كليوباترة"؛ حيث ينتحر البطلان الرئيسان، وبدلا من أن تختتم المسرحية بذلك، نرى هيلانة وقد أسعفت من السم ونهضت لتتأبط ذراع حابي، وتخرج معه من المسرح إلى حيث الضيعة، التي اقتطعتها إياها كيلوباترة قبل انتحارها.

وإن قيل أن ذلك من باب "الترويح" ليخفف من وقع الفاجعة على المتلقي، فإنه لا يجوز في مقام كهذا، لأن كلا البطلين عبر عن شهواته وتخبط في حياته، وهنا يكون الترويح عيبا في الخاتمة، لأنه يبدد الأثر الضعيف لمشهد البطلين، وبهذا انتهت المسرحية بما يسميه بعضهم "ذيل السمكة" أي بنهاية لا يمكن الإمساك بها.

وشوقي كثيرا ما يقحم على المسرحية مشاهد قصصية تعرقل الحبكة وتعوق بناءها؛ كمرور موكب الحسين بن علي في صحراء الحجاز، وكذلك مسرحية أميرة الأندلس.

فهو يقحم عددا من اللوحات الاستعراضية، ويقحم على الحوار مقطوعات من الشعر الغنائي تنكص إلى ذكريات الماضي، أو تتغنى بالحب وذكرياته، فتبدو وكأنها قصائد غنائية أقرب إلى "المونولوج" أو النجوى الذاتية.

وهذه الإضافة تختلف في حبكتها عن المسرحيات العالمية الكبرى، لأن المسرحيات العالمية الكبرى تضيف جديدا إذ تتضمن اعترافات، أو تسلط الضوء على جوانب خفية من الشخصية، أما إضافات شوقي، فلا تعدو أن تكون انفعالات غنائية فلا تكشف عن ماضي الشخصية من ناحية، ولا تساعد على تطوير حاضرها من ناحية أخرى.

إلا أنه في نهاية الأمر لا يجوز لنا أن نقول أن حبكة شوقي ضعيفة وذلك لأن الأمر يختلف في بعض أعماله كمسرحياته الثلاثة "علي بك الكبير"، و"مجنون ليلى"، و"عنترة"، فكانت الحبكة قوية ومسايرة للأحداث. (2)

ثانيا: بالنسبة للنزعة التاريخية.

وهذه النزعة من الثوابت الكلاسيكية.

والغرض لدى الكلاسيكين من هذه النزعة هو: تطويع الخوارق القصصية بتقديمها في إطار تاريخي وإخراجها إلى أفق إنساني.

وهذا ما فعله شوقي حيث اختار موضوعاته من التاريخ، واستلهم من تاريخ مصر موضوعات لمسرحياته الستة: مصرع كليوباترة، قمبيز، علي بك الكبير، مجنون ليلى، عنترة، أميرة الأندلس، فهو شأن الكلاسيكين يؤثر المسرح التاريخي على المسرح المعاصر.

إلا أن شوقي لم يلتزم بالتاريخ الحقيقي، ففي مسرحيتي عنترة ومجنون ليلى يتداخل فيهما الحقيقي بالأسطوري على نحو يصعب الفصل بينهما، وفي مسرحية قمبيز أثر فيها الجانب الأسطوري على الجانب التاريخي، إذ علل غزو قمبيز لمصر بأنه خدعة فرعون له في أن زوجه من فتاة ادعى أنها ابنته، وكان يمكن مثلا أن يعلله بأسباب سياسية أو اقتصادية. (3)

أقول – الطالب، كاتب البحث –: لعل شوقي قصد بذلك أن يقلل من ذكاء قمبيز، ويجعل المكر في فرعون مصر مما يعطي للفرعون مهابة وقوة لما فعل.

ثالثا: بالنسبة للصراع.

الصراع من خلال ما تعلمت – الطالب، كاتب البحث –: "هو إظهار حالة العناء والحزن والكرب في اختيار شيء على شيء آخر، بينما لا تريد أن تخسر الاثنين".

وهذا النمط ينطوي على صراع داخلي قد يكون بين الوفاء للزوج، وبين حب الابن، فتتم المفاضلة بينهما باختيار أحدهما وترك الآخر.

والصراع لا يرتفع عن المسرحية الكلاسيكية إلا وعناصر الأزمة قد تجمعت واشتبكت ووصلت إلى القمة، ثم لا تلبث أن تأخذ في الانفراج أو التطور نحو نهايتها المحتومة العضوية.

بمعنى أن الأزمة اشتدت والمحنة عظمت ثم ما تلبث أن تنفرج رويدا رويدا بانتهاء المسرحية.

والصراع لا غنى عنه في المسرحية لأنه يولد الحركة المسرحية ويخرج بها عن الاستعراض كما يخرج بالحوار عن مجرد المناقشة.

ويكون بسبب عوامل داخلية أو خارجية، أو قائم على عواطف متقاربة أو متباعدة.

إلا أن شوقي أخفق على المستوى التطبيقي، سواء في اختياره العناصر أو في استخدامها في تقوية الصراع واستثارة المتلقي.

ففي مسرحية مجنون ليلى مثلا، يدور الصراع بين عاطفة ليلى نحو المجنون، وتقاليدهم الاجتماعية التي لا تزوج الفتاة ممن تغزل بها، ولكنه مع ذلك صراع فاتر ذلك أن ليلى مع حبها قيسا أتيح لها أن تتزوج منه حين خيرت بينه وبين ورد.

ولكنها اختارت الأخير دون أن تبدي أي صراع أو معاناة جاء التضحية بحبها لصالح ذلك التقليد القبلي. (4)

= فائدة:

فضلا عن هذه المظاهر الكلاسيكية في مسرح شوقي، فهناك ظاهرتان تعززان التوازن عنده: فالأولى: أنه أثر الوصف على المشاهد في بعض الأحداث، فلم يعرض مثلا على المسرح حرب أنطونيو مع أوكتاف، أو حرب علي بك الكبير مع محمد بك أبي الدهب.

وأما الثانية: فهي أن مآسيه على أزمة تتصارع فيها قوى نفسية وأخلاقية متعارضة وإن كان هذا الصراع سطحيا أحيانا لا يتعمق أغوار النفس البشرية. (5)

= فائدة 2:

قد كان شوقي عاشقا لوطنه محبا لتراثه ويدافع عنه دفاعا مستميتا في مسرحياته وأدبه، فكان يبرز بعض جوانب الحياة المصرية القديمة، ويدافع عن شخصياته دفاع المحب لتراثه.

فهو قد قصد من تأليف مسرحية (مصرع كليوباترا)، أن يرد على الغربيين فيما يرون من أن (كليوباترا) تمثل العقلية الشرقية في نظرهم، وفي ميلها إلى لذة العيش ومتاعه، والانتصار بالخديعة لا بالجهد، وسلوك سبيل المكر والحيلة، فدافع شوقي عنها لا بوصفها ملكة، بل بوصفها مصرية شرقية، فقد قدمها في صورة المخلصة لوطنها وتؤثره على حبيبها وتحيا وتموت لمجد مصر، وتأبى أن تسأم الذل. (6)

= فائدة 3:

تعد رواية هيرودوتس مصدرا لقصة (قمبيز)، إلا أن شوقي لم يأخذ من المصدر مباشرة لعدم علمه بلغة الإغريق واليونان، فربما قرأ ملخصها في كتاب عن هيرودوتس أن عن تاريخ مصر ضرورة أن النص لم يكن يومئذ قد ترجم.

ولم يتصل شوقي بهذا المصدر الكلاسيكي اتصالا مباشرا لأن هيرودوتس معروف بمحاباته للفرس، بينما شوقي كان هدفه من المسرحية الإشادة بمجد مصر وعراقتها وتاريخها وثباتها في وجه المستعمر.

وكانت معالجته للمسرحية شديدة التأثر بالكلاسيكية الجديدة التي ظهرت في فرنسا إبان عصر النهضة، في القرن السابع عشر. (7)

المطلب الثالث: الحكم على شوقي

1 – في مجال البحث في الأدب المقارن يتحدث الدارسون كثيرا عن الأدباء الذين صنعوا الاتصال والتأثر والتأثير ... ونحن إزاء عبقرية متفتحة الأفق تفعل كل ما تفعله للنهوض بالأدب العربي من خلال وعي كامل بمسؤولية التطوير والإحياء... وإن إدخاله الشعر المسرحي في الشعر العربي ناحية من نواحي التجديد التي طمح إلى تحقيقها في مطلع شبابه ... فضلا عن أن محاولاته التجديدية تفيد في تحديد مرحلة الاتصال بالآداب الغربية التي كان الأدب العربي قد وصل إليها عند نهاية القرن التاسع عشر تماما. (8)

ولقد كان في تأليفه مسرحية (مصرع كليوباترا) سنة 1929م أهمية في أدبنا العربي لأنها تعتبر البدء للأدب المسرحي الصحيح في لغتها الرفيعة، وفي كثير من الجوانب الفنية التي توافرت فيها بالقياس إلى ما سبقتها من مسرحيات. (9)

2 – أرى والله أعلم أن لشوقي مذهبه الخاص، والدليل على ذلك خروجه عن القواعد الكلاسيكية، ولعله في كل خروج حدث منه على نحو ما بينت؛ له فيها فلسفة وجدانية لم يذكرها ولم يؤصل لها، فلعل هذا هو الذي جعل النقاد والباحثون يقولون فيه ما يقولون من أخطاء ربما تكون عند شوقي ومن وجهة نظري ليست بأخطاء، فلا ننسى أنه شاعر، والشاعر إذا أتته الخاطرة فأعجبته فإنه يذكرها وإن كان سيكون منها خروجا عن القواعد وعن المألوف.

3 – قد حُكم على شوقي بأن سبب خروجه عن الكلاسيكية ووحداتها بأنه يرغب في إحداث توازن بين هويته العربية وثقافته الغربية، أو أنه يعتمد في ذلك على ذوقه الفطري دون تفلسف أو تمذهب، وهذا يحسب له لا عليه. (10)

4 – وكما قال (أ.د/ طلعت صبح السيد) في محاضراته لنا:

وعليه: فمسرحيات شوقي تؤكد أنه الرائد الإبداعي للمسرحية الشعرية في أدبنا الحديث، وجميع معالجته جاءت شديدة التأثر بالكلاسيكية الجديدة، التي ظهرت في فرنسا إبان عصر النهضة في القرن السابع عشر.

ومهما وجه إلى شوقي من مآخذ فإننا يمكننا أن نقول: إنه كان رائدا في مجال كان بالنسبة له بكرا، ومن المسلم به أن الريادات دائما لا تولد كاملة، فالكثير من تلك الأصول الكلاسيكية، أمر نسبي لم يتحرج الغربيون أنفسهم من الخروج عليها.

الخاتمة

بفضل الله وكرمه ومنه تيسر لي إتمام عمل بحث (شوقي رائد المسرحية الشعرية في أدبنا العربي الحديث)، بعد أن بينت فيه ما كان غامضا وخططت له طريقا يسيرا ممتعا شيقا دون اعوجاج فيه.

لقد وصلنا في هذا البحث إلى أن (شوقي) كان يتردد على مسرح "الكوميدي فرانسيز"، في باريس وشاهد ما يمثل عليه من روائع الأدب التمثيلي الكلاسيكي والرومانتيكي والمعاصر، ومن هنا كان تأثره بالكلاسيكية في عصر الرومانسية، وأولع بهذا الفن ولعا شديدا، فضلا عن أن المسرحيات الكلاسيكية كانت شعرية فبدهي أن تصادف هوى شوقي، فهو شاعر في المقام الأول ولذا تأثر بها فأراد أن يحاكيها فنظم مسرحياته شعرا.

وكان تأثره بالكلاسيكية تلقائيا بعيدا عن أية فلسفة أو تمذهب، فأفضى ذلك التأثر إلى تداخل تيارين في مسرحه أحدهما شرقي يمثل الذات العربية، والآخر غربي يمثل قراءاته ومشاهداته ألوانا من هذا الفن في فرنسا.

وأنه قد تمثل تأثر شوقي في ثلاثة مظاهر هي: الحبكة، والنزوع إلى التاريخ، والصراع، إلا أنه لم يلتزم بثوابت الكلاسيكيين في بعض الأحيان.

وأنه كما قال (أ.د/ طلعت صبح السيد) في محاضراته لنا:

وعليه: فمسرحيات شوقي تؤكد أنه الرائد الإبداعي للمسرحية الشعرية في أدبنا الحديث، وجميع معالجته جاءت شديدة التأثر بالكلاسيكية الجديدة، التي ظهرت في فرنسا إبان عصر النهضة في القرن السابع عشر.

ومهما وجه إلى شوقي من مآخذ فإننا يمكننا أن نقول: إنه كان رائدا في مجال كان بالنسبة له بكرا، ومن المسلم به أن الريادات دائما لا تولد كاملة، فالكثير من تلك الأصول الكلاسيكية، أمر نسبي لم يتحرج الغربيون أنفسهم من الخروج عليها.

أرجوا من الله تعالى أن يجعل هذا البحث المتواضع نافعا ينتفع به من قرأه، وأسأل التوفيق والسداد.

فهرس المصادر

1 - كتاب الأدب المقارن ومعرفة الآخر، تأليف الأستاذ الدكتور/ محمد طه عصر، والمقرر على الفرقة الثالثة؛ قطاع كليات اللغة العربية.

2 - كتاب الأدب المقارن/ للدكتور محمد غنيمي هلال، الناشر: نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة التاسعة – أكتوبر 2008م.

3 - كتاب آفاق الأدب المقارن عربيا وعالميا/ للدكتور حسام الخطيب.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) (كتاب الأدب المقارن ومعرفة الآخر، تأليف الأستاذ الدكتور/ محمد طه عصر: ص77، ص78، بتصرف).

(2) (كتاب الأدب المقارن ومعرفة الآخر، تأليف الأستاذ الدكتور/ محمد طه عصر: ص78 إلى ص80، بتصرف).

(3) (كتاب الأدب المقارن ومعرفة الآخر، تأليف الأستاذ الدكتور/ محمد طه عصر: ص80 إلى ص81، بتصرف).

(4) (كتاب الأدب المقارن ومعرفة الآخر، تأليف الأستاذ الدكتور/ محمد طه عصر: ص81 إلى ص82، بتصرف).

(5) (المرجع السابق: ص82).

(6) (كتاب الأدب المقارن للدكتور محمد غنيمي هلال: ص257، بتصرف).

(7) (كتاب الأدب المقارن ومعرفة الآخر، تأليف الأستاذ الدكتور/ محمد طه عصر: ص83 إلى ص84، بتصرف).

(8) (كتاب آفاق الأدب المقارن عربيا وعالميا للدكتور حسام الخطيب: ص124: 126، بتصرف).

(9) (كتاب الأدب المقارن للدكتور محمد غنيمي هلال: 145، بتصرف).

(10) (كتاب الأدب المقارن ومعرفة الآخر، تأليف الأستاذ الدكتور/ محمد طه عصر: ص83).

 

 

ابن سلام ناقدا


 




المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على المصطفى خير المرسلين، وشفيع العالمين، والشكور لربه والمتعبد له طوال الأيام والسنين، الذي أدى رسالته على أتم حكمة وموعظة وإرشاد وبرهان وفصاحة وأخلاق وبر حتى علا هذا الدين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد:

فقد كلفت بعمل بحث كإجراء لنجاحي بإذن الله في مادة (النقد الأدبي القديم)، ولقد منّ دكتور المادة على طلابه باختيار موضوع واحد من عدة مواضيع لعمل البحث.

ولقد قمت باختيار موضوع (ابن سلام ناقدا) بحثا عما عداه لأهميته؛ فلولاه لما تم تشييد البناء.

فهو من أوائل النقاد الذين اعتنوا بالشعر والشعراء فضلا عن أنه خص النقد الأدبي بدراسة مستقلة بعد أن كان جملا وفقرات متناثرة في بطون الكتب، ولابتكاره لبعض القضايا والأفكار.

ولقد جعلت مراجعي بعد الكتاب الدراسي: كتاب طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي، وكتاب تاريخ النقد الأدبي عند العرب لطه أحمد إبراهيم، والأعلام للزركلي، ولم أنس فضل معلمي وفضل ما ذكره لنا من معلومات قيمة في محاضراته لنا فجعلتها من ضمن بحثي بشيء من التوثيق.

ولقد كان منهجي في هذا البحث أخذ المسائل الهامة، وعدم أخذ أي حشو يطيل من البحث وهو ما لا يجوز لنا في هذا المقام، وأكثرت من الاهتمام في عرضي للموضوع بأن لا أخرج عن دائرة البساطة، فقدمت ما كان حقه التقديم وأخرت ما حقه التأخير وقد ذكر في مراجعي على غير هذا المنوال، وأظهرت شخصيتي في البحث وأشرت إلى بعض أخطاء هينة دون أن يدري القارئ المستمتع للبحث.

وكان حديثي في البحث عن التعريف بابن سلام الجمحي، وابن سلام الناقد، وغاية ابن سلام من تأليف كتابه ومنهجه الذي سلكه، وأهم القضايا النقدية التي احتوى عليها الكتاب، وأتبعت ذلك كله بخاتمة.

وأسأل الله العظيم أن ينفعني بهذا البحث وأن ينفع قارئه وأسأل من الله القبول.

ابن سلام ناقدا

المطلب الأول: التعريف بابن سلام الجمحي

هو أبو عبد الله محمد بن سلام بن عبيد الله بن سالم مولى قدامة بن مظعون الجمحي القرشي، ولد بالبصرة عام (139 هـ) أو (140 هـ) أو كما جاء في كتاب (الأعلام للزركلي) (150 هـ)

سنة (767 م) (1)، وهو من علماء أواخر القرن الثاني من الهجرة وأوائل القرن الثالث، وأخبرنا (أ.د/ صلاح الميه) في محاضراته لنا أنه سمع من شيوخ العلم والحديث والأدب وروى عنهم فنراه يتحدث عن حماد بن سلمة ومبارك بن فضالة والأصمعي ويونس بن حبيب وأبي عمرو بن العلاء وأبي عبيدة والمفضل الضبي واشتهر بسعة علمه وصدق روايته. اهـ.

"فتربى على أذواق كل هؤلاء وفي بيئاتهم وخاض في كل ما خصوا فيه من المسائل النقدية"(2)، "وهو من جملة أهل الأدب كما قال فيه الأنباري ... ونحوي ...، ولغوي عده الزبيدي الأندلسي صاحب طبقات النحويين واللغويين في الطبقة الخامسة من اللغويين البصريين. وهو يعد أحد كبار نقدة الشعر والنفاذ فيه؛ ألف كتابا أو كتابين في طبقات الشعراء" (3)، وممن روى عنه من الثقات كما أخبرنا (أ.د/ صلاح الميه) أحمد بن يحيى ثعلب، وأبو حاتم السجستاني، وأبو الفضل الرياشي، والمازني، وأحمد بن حنبل، وغيرهم، وترك العديد من المؤلفات لعل من أهمها "طبقات فحول الشعراء" و"غريب القرآن" و"بيوتات العرب" و"الفاضل في ملح الأخبار والأشعار".

وقال صاحب (الأعلام) وكان يقول بالقدر، فقال أهل الحديث: يكتب عنه الشعر، أما الحديث فلا.(4)

"ولقد قضى ابن سلام أكثر سنوات عمره بالبصرة ثم قدم بغداد عام (222 هـ) وأقام بها حتى انقضى أجله عام (232 هـ)" (5).

المطلب الثاني: ابن سلام الناقد

كانت الحاجة ماسة إلى التدوين في النقد الأدبي، كما كانت ماسة إلى تدوين الأدب، فكانت الآراء المبعثرة التي قيلت في الشعر والشعراء وما قاله الأدباء والعلماء في نقد الشعر وفي الكلام على الشعراء نواة كتاب "طبقات فحول الشعراء" لابن سلام.

ولأن ابن سلام قد تمتع بعقل واع وفكر منظم ألف كتابه عن خبرة ودربة ومهارة ودقة في الفهم؛ فنراه ينظم أفكاره، ويعرضها، ويبرهن عليها، ويستنبط منها حقائق أدبية، صحيح أن هذه الأفكار كان مشاركا لمعاصريه في جلها لكنه فحصها وحققها وأضاف إليها وصبغها بصبغة البحث العلمي وسلكها في كتابه الخاص فكان خلاصة ما قيل إلى عهده في أشعار الجاهلية والإسلام ثم زاد على معاصريه في نظرته الفنية والأدبية فهو بذلك من الذين أفسحوا ميادين النقد وهو بذلك أول المؤلفين فيه. (6)

المطلب الثالث: غاية ابن سلام من تأليف كتابه ومنهجه الذي سلكه

قد تعلمت من (أ.د/ صلاح الميه) في محاضراته لنا أن غاية ابن سلام من تأليف كتابه لم تكن لجمع أشعار القدماء والحديث عن أيامهم وأخبارهم فحسب، بل كانت في تخليص الشعر مما علق به من شوائب، وما كان فيه من مصنوع مفتعل، والتنبيه على مكانة كل شاعر ومنزلته من شعراء عصره، وفي سبيل ذلك استعرض ابن سلام معظم المقاييس النقدية التي كانت سائدة في عصره وحدد بعض الثوابت التي سيأخذ بها، ولعل من أهمها:

أ - رفضه الأخذ بما ورد في بطون الكتب من أشعار:

وذلك لأن ابن سلام يرى أن الشعر قد تداوله قوم من كتب ولم يأخذوه عن أهل البادية ولم يعرضوه على العلماء.

ب - التزامه برأي الجماعة.

وأخبرنا (أ.د/ صلاح الميه) في محاضراته لنا أن ابن سلام قد تحدث عن أهمية عمل الناقد، وهي الشروط التي يجب أن تتوافر في الناقد، وأشار إلى الثقافة والذوق والفطرة والدربة والممارسة، وذلك كي يتمكن الناقد من المهمة الملقاة على عاتقه، والتي تمكنه من تمييز الجيد من الرديء، وتخليص ذلك الشعر مما دخله من مصنوع.

وأن ابن سلام تحدث في مقدمته عن الكثير من الأمور التي تتعلق بالشعر وبداياته وبعض ما أصابه من عيوب وآفات تتعلق بالنشأة الأولى وتدلل عليه.

وتناول أبرز أخبار الشعر والشعراء وما طرأ على الشعر في الإسلام وما طرأ على اللغة العربية وأول من تحدث بها والنحو العربي ونشأة مباحثه وتطورها.

أما عن منهج ابن سلام: فقد اقتصر على ما لا يجهله عالم لشعر العرب وشعرائهم المشهورين فوجدهم عشر طبقات، أربعة رهط كل طبقة، فساق اختلافهم واتفاقهم ومن شعرهم الأبيات التي تكون في الحديث والمعنى.

المطلب الرابع: أهم القضايا النقدية التي احتوى عليها الكتاب

المتأمل في كتاب "طبقات فحول الشعراء" يلاحظ أن هذا الكتاب اشتمل على قضايا عدة أبرزها انتحال الشعر الجاهلي، وفكرة الطبقات.

القضية الأولى: قضية انتحال الشعر الجاهلي.

أولا: أما عن تعريفها فقد عرفها (أ.د/ صلاح الميه) لنا بأنها: وضع الشعر ونسبته إلى غير قائله.

ومعنى هذا أن في الشعر الجاهلي ما هو مصنوع ومنتحل، وهذا أمر قد أزعج العلماء في هذا العصر فكانت الغاية من تنبيه ابن سلام لنا، أن يشعر الأجيال القادمة بما يجب عليهم من الحذر والتبصر فيما يسند إلى الجاهلين؛ بل أراد أبعد من هذا: أراد خدمة الروح العلمية بإسناد كل قول إلى صاحبه، وكل شعر إلى عصره. (7) وقام ابن سلام بعرضها فيحسن العرض، ويبرهن عليها فيجيد؛ ويتلمس لها الأسباب المبرهنة، ويطبقها على من يطبقها من الشعراء الجاهليين. (8)

ثانيا: الأدلة التي ذكرها ابن سلام ليدلل على وجود الانتحال في الشعر:

وقد ذكر (أ.د/ صلاح الميه) في محاضراته لنا الأدلة التي ذكرها ابن سلام ليدلل على وجود هذا الانتحال في الشعر:

1 – عدم وجود قرينة على ما يتداوله الرواة مكتوبا إلى العصر الجاهلي أو منسوبا إلى العصر الجاهلي فهو لم يأت مرويا عن أهل البادية ولم يعرض على علماء العربية الثقات.

ولعل معلمي يقصد قول ابن سلام: "وَقد تداوله قوم من كتاب إِلَى كتاب، يأخذوه عَن أهل الْبَادِيَة، وَلم يعرضوه على الْعلمَاء. وَلَيْسَ لأحد - إِذا أجمع أهل الْعلم وَالرِّوَايَة الصَّحِيحَة على إبْطَال شيء مِنْهُ - أَن يقبل من صحيفَة، ولا يُروى عن صُحَفيّ". (9)

2 – ضعف مستوى ذلك الشعر:

وفي ذلك يقول ابن سلام "وفى الشّعْر مَصْنُوع مفتعل مَوْضُوع كثير لَا خير فِيهِ، وَلَا حجَّة فى عَرَبِيَّة، وَلَا أدب يُسْتَفَاد، وَلَا معنى يسْتَخْرج، وَلَا مثل يضْرب، وَلَا مديح رائع، وَلَا هجاء مقذع، وَلَا فَخر معجب، وَلَا نسيب مستطرف". (10)

وبعد أن يهيئ ابن سلام القول في الشعر الموضوع يأخذ منه مثالا بعينه، ويقبل عليه طعنا وتجريحا بكل ما يمكن من البراهين. (11)

فيقول ابن سلام: " وَكَانَ مِمَّن أفسد الشّعْر وهجنه وَحمل كل غثاء مِنْهُ مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن يسَار مولى آل مخرمَة بن الْمطلب بن عبد منَاف وَكَانَ من عُلَمَاء النَّاس بالسير ... وَلم يكن ذَلِك لَهُ عذرا فَكتب فِي السّير أشعار الرِّجَال الَّذين لم يَقُولُوا شعرًا قطّ وأشعار النِّسَاء فضلا عَن الرِّجَال ثمَّ جَاوز ذَلِك إِلَى عَاد وَثَمُود فَكتب لَهُم أشعارا كَثِيرَة وَلَيْسَ بِشعر إِنَّمَا هُوَ كَلَام مؤلف مَعْقُود بقواف". (12)

فهو يعيب على محمد بن إسحاق صاحب السيرة أنه هجَّن الشعر وأفسده، وأورد في كتابه أشعارا لرجال لم يقولوا شعرا قط، ونساء لم يقلن شعرا قط، بل أورد أشعارا لعاد وثمود! (13)

ثالثا: الأدلة التي استند عليها ابن سلام في رفضه بعض الشعر الجاهلي:

فقد ذكر (أ.د/ صلاح الميه) في محاضراته لنا تلك الأدلة التي استند عليها ابن سلام في رفضه بعض الشعر الجاهلي مقسمة إلى أدلة نقلية من القرآن الكريم وتاريخية.

أ – أدلة قرآنية: وتتمثل فيما جاء في القرآن الكريم من آيات عديدة تتحدث عن الأمم السابقة وانقطاع دابر بعضها.

فالله تعالى يقول: {وأنه أهلك عادا الأولى – وثمود فما أبقى}، ويقول في عاد: {فهل ترى لهم من باقية}.

يتابع ابن سلام فيقول: "أَفلا يرجع إِلَى نَفسه فَيَقُول من حمل هَذَا الشّعْر وَمن أَدَّاهُ مُنْذُ آلَاف من السنين". (14)

ب – أدلة تاريخية: استقاها ابن سلام من تاريخ اللغة العربية واختلاف لهجات العرب وكذلك تاريخ الشعر العربي واعتمد عليها في رفضه لبعض الشعر المنسوب إلى الجاهليين تتمثل هذه الأدلة التاريخية في:

* أن اللغة لم تكن موجودة عند عاد وثمود وليس يصح في الأذهان أن يوجد شعر بلغة لم توجد بعد فأول من تحدث بالعربية هو إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وإسماعيل كما هو معروف جاء بعد عاد وثمود.

* إن الشعر الموضوع الذي نسبه الرواة إلى قوم عاد لا يمثل لغة عاد فعاد من اليمن ولسان اليمنيين يختلف عن لسان العرب.

ويستدل على ذلك بقول أبي عمرو بن العلاء " الْعَرَب كلهَا ولد إِسْمَاعِيل إِلَّا حمير وبقايا جرهم" (15) وقوله " مَا لِسَان حمير وأقاصي اليمن الْيَوْم بلساننا وَلَا عربيتهم بعربيتنا". (16)

* إن تاريخ الأدب العربي لا يذهب بالشعر الجاهلي إلى ذلك العصر الموغل في القدم بل ازدهار الشعر لم يكن قبل الإسلام بكثير.

يقول " وَلم يكن لأوائل الْعَرَب من الشّعْر إِلَّا الأبيات يَقُولهَا الرجل فى حَاجته وَإِنَّمَا قصدت القصائد وَطول الشّعْر على عهد عبد الْمطلب وهَاشِم بن عبد منَاف. وَذَلِكَ يدل على إِسْقَاط شعر عَاد وَثَمُود وحمير وَتبع ". (17)

رابعا: عوامل ظهور الانتحال: والتي أرجعها ابن سلام إلى عاملين.

1 – العصبية القبلية: وهذا لأن بعض القبائل لما فتشت على شعرها فوجدته قليلا لضياع أغلبه أخذت تكثر منه بالانتحال. (18)

2 – الرواة الوضاعين أو عدم تنبه الرواة: كما فعل ابن إسحاق وما ذكرت فيه من قبل. (19)

وكحماد الذي قال ابن سلام عنه: "وَكَانَ أول من جمع أشعار الْعَرَب وسَاق أحاديثها حَمَّاد الراوية وَكَانَ غير موثوق بِهِ وَكَانَ ينْحل شعر الرجل غَيره وينحله غير شعره وَيزِيد فِي الْأَشْعَار". (20)

خامسا: عدة ابن سلام في التمييز بين الصحيح من المنحول.

وقد علمنا (أ.د/ صلاح الميه) في محاضراته لنا عدة ابن سلام في التمييز بين الصحيح من المنحول، فكانت في ثلاثة أمور:

1 – الذوق الشعري المكتسب من الثقافة والدربة.

بمعنى أن الناقد صاحب التذوق والثقافة والدربة وكثرة الاطلاع أجدر على معرفة الصحيح وضده. وفي ذلك يقول ابن سلام: "وللشعر صناعَة وثقافة يعرفهَا أهل العلم كَسَائِر أَصْنَاف العلم والصناعات ... وَإن كَثْرَة المدارسة لتعدي عَلي العلم بِهِ". (21)

2 – إجماع الرواة سواء على نسبة الشعر إلى أصحابه أو نسبته إلى غير أصحابه.

وفي ذلك يقول " وَلَيْسَ لأحد إِذا أجمع أهل الْعلم وَالرِّوَايَة الصَّحِيحَة على إبطَال شيء مِنْهُ أَن يقبل من صحيفَة وَلَا يرْوى عَن صحفي".

ويقول أيضا " فَأَما مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ فَلَيْسَ لأحد أَن يخرج مِنْهُ". (22)

3 – وجود الشعر في ديوان الشاعر مما دونه الرواة الثقات.

وفي كتابه إشارات كثيرة تؤكد اعتماده على روايات العلماء المشهود لهم بالأمانة والثقة.

ومما سبق يتبين لنا أن ابن سلام تناول قضية الانتحال بكل موضوعية فحقق غايته في إشعاره للأجيال القادمة بما يجب عليهم من الحذر والتبصر فيما يسند إلى الجاهلين؛ وقام بخدمة الروح العلمية بإسناد كل قول إلى صاحبه، وكل شعر إلى عصره.

سادسا: المآخذ التي وجهت إلى ابن سلام في قضية انتحال الشعر الجاهلي.

1 – وقع ابن سلام في مثل ما عابه على ابن إسحاق فأضاف إلى بعض الجاهليين ما ليس لهم، وأورد شعرا جاهليا لا يطمأن إليه.

أقول: وربما يكون ذلك ناتجا عن اعتماده على الذوق والدربة التي ليست هي مرجع يرجع إليه.

2 – أشار إلى أثر المنحول من الشعر إلا أنه لم يوقفنا على هذه الزيادات ولو فعل ذلك لنقى الشعر العربي حتى يخلوا من الارتياب.

أقول: وربما يكون ذلك من اهتمامه بتقعيد القواعد وتأسيس الأسس كي يبني عليها من بعده.

3 – جاءت بعض أحكامه النقدية غير معللة، كما أنه أهمل تحليل النصوص تحليلا يبرز مواطن الجمال فيها.

4 – ربط بين كثرة النتاج الشعري والحرب كسبب رئيس، وليس الشعر كله في الحرب. (23)

القضية الثانية: فكرة الطبقات.

أولا: تتمثل فكرة الطبقات في تقسيم الشعراء إلى طبقات، (24) فاعتمد في اختياره على الشعراء الفحول وسار في تصنيف الشعراء على ما سار عليه من قبله؛ فشعراء الجاهلية في طبقات، وشعراء الإسلام والمخضرمين في طبقات كل على استقلال. (25)

وقد علمنا (أ.د/ صلاح الميه) في محاضراته لنا أن الكتاب يشتمل على أكثر من مائة وأربعة عشر شاعرا جاء تقسيمها كالآتي:

1 – طبقات الشعراء الجاهليين: وهي عشرة، في كل طبقة أربعة شعراء.

2 – طبقات الشعراء الإسلاميين: وهي عشرة، في كل طبقة أربعة شعراء.

3 – طبقات شعراء المراثي: وتضم ثلاثة شعراء وشاعرة وهي الخنساء، وهي المرأة الوحيدة التي أوردها ابن سلام في طبقاته.

"وسبب جعل شعراء المراثي بموضع خاص في كتابه؛ فهو بهذا يتجه إلى تمييز الفنون الشعرية بعضها عن بعض؛ وكأنه يشير بهذا إلى تنسيق الاتجاهات الفنية". (26)

4 – طبقة شعراء القرى: وتشتمل على ثلاثين شاعرا (وليس اثنين وعشرين شاعرا) قسمهم على النحو الآتي:

أ – شعراء المدينة وهم خمسة، ثلاثة من الخزرج واثنان من الأوس.

ب – شعراء مكة وهم تسعة.                        ج – شعراء الطائف وهم خمسة.

د – شعراء البحرين وهم ثلاثة.                     هـ - شعراء اليهود وهم ثمانية شعراء.

"وسبب جمع ابن سلام شعراء القرى في حديث واحد فلأنه قد عرف أثر الإقليم الذي ينشأ فيه الشاعر". (27)

ولا يخضع ترتيب ابن سلام لأي معيار نقدي، فلا يعني أن الطبقة الأولى أفضل من الطبقة الأخيرة، أو أن شاعرا أعلى مكانة على باقي الشعراء.

لكنه يورد آراء العلماء واختلافهم في المفاضلة بين شعراء الطبقة، فقال:

"أخبرني يُونُس بن حبيب: أَن عُلَمَاء الْبَصْرَة كَانُوا يقدمُونَ امْرأ الْقَيْس بن حجر، وَأهل الْكُوفَة كَانُوا يقدمُونَ الْأَعْشَى، وَأَن أهل الْحجاز والبادية كَانُوا يقدمُونَ زهيرا والنابغة" (28)

وهذا لا يمنع ابن سلام من إبداء رأيه - في حالات قليلة - سبب تقديم شاعر على آخر عند مصر من الأمصار، وليس هذا بعيب لأنه من باب التوضيح لمتعلمه.

ثانيا: مقاييس ابن سلام في مفاضلته بين الشعراء وتصنيفهم في طبقات.

اعتمد ابن سلام في مفاضلته بين الشعراء وتصنيفهم في طبقات تبين مكانتهم الأدبية ومرتبتهم الشعرية على ثلاثة مقاييس عامة ذكرها (أ.د/ صلاح الميه) في محاضراته لنا:

1 – كثرة شعر الشاعر: فقد اعتمد ابن سلام عليه في المفاضلة بين الشعراء فيما نراه في تبرير تأخر منزلة طرفة بن العبد وعبيد الأبرص وعلقمة بن عبدة وعدي بن زيد إلى الطبقة الرابعة إذ يقول " وهم أَرْبَعَة رَهْط فحول شعراء، موضعهم مَعَ الْأَوَائِل، وَإِنَّمَا أخلَّ بهم قلَّة شعرهم بأيدي الروَاة". (29)

2 – تعدد أغراضه: ويتمثل في تبريره تقديم كثير عزة في الطبقة الثالثة على جميل بثينة الذي وضعه في الطبقة السادسة يقول "وَكَانَ لكثير فِي التشبيب نصيب وافر وَجَمِيل مقدم عَلَيْهِ وعَلى أَصْحَاب النسيب جَمِيعًا فِي النسيب وَله فِي فنون الشّعْر مَا لَيْسَ لجميل". (30)

3 – جودة شعره: فيتمثل في قوله في حسان بن ثابت " وَهُوَ كثير الشّعْر جَيِّدَه". (31)

ثالثا: المآخذ التي وجهت إلى ابن سلام في فكرة الطبقات.

1 – اعتمد في تقسيم الشعراء على أساس كثرة النتاج الشعري، ولم يلتزم بذلك، فقد كان يراعيه حينا ويتركه حينا؛ فمثلا وضع طرفة في الطبقة الرابعة مع جودة قصائده وكثرتها، ووضع لبيد في الطبقة الثالثة، ووضع عمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة وعنترة بن شداد مع جودة شعرهم في الطبقة السادسة وقدم عليهم من هم أقل منهم شعرا وجودة.

2 – وفق ابن سلام في التفرقة بين الجاهليين من سكان البادية والجاهليين من سكان القرى، إلا أنه لم يتعرض لمكانة شعراء أهل القرى ولم يذكر لنا منزلة بعضهم كحسان بن ثابت وغيره من الشعراء.

3 – أهمل بعض فحول الشعراء مثل عمر بن أبي ربيعة والطرماح بن حكيم والكميت الأسدي ومكانتهم لا تنكر في الشعراء الإسلاميين.

4 – ذكر بشامة بن الغدير وأبا زيد الطائي ضمن الشعراء الإسلاميين مع أنهما جاهليان. (32)

وذكر (أ.د/ صلاح الميه) في محاضراته لنا أن ابن سلام وضع بعض المخضرمين ككعب والحطيئة والنابغة الجعدي ولبيد والكميت في طبقات الجاهليين دون أن يقدم سببا واحدا يبرر هذا الصنيع مع أنه قال في ترجمته للنابغة الجعدي "وَكَانَ النَّابِغَة قَدِيما، شَاعِرًا مُفـْلـِقَا، طَوِيل الْبَقَاء فى الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام". (33)

5 – ضم الراعي إلى الثلاثة الإسلاميين وعده في طبقتهم من غير حجة ولا دليل. (34)

إلا أنه في نهاية الأمر سيظل ابن سلام رائدا لأنه من أوائل النقاد الذين اعتنوا بالشعر والشعراء فضلا عن أنه خص النقد الأدبي بدراسة مستقلة بعد أن كان جملا وفقرات متناثرة في بطون الكتب، ولابتكاره لفكرة تقسيم الشعراء إلى طبقات، فضلا عن أن كتابه يعد من أوائل المصادر النقدية الأساسية فإنه يمثل دورا وسيطا في التأليف الإسلامي إذ إنه خروج من التقيد اللفظي بالروايات المفردة مثبتة بعد أسانيدها إلى التحلل من قيد الرواية باختصار الأسانيد وبجمع بعض الروايات إلى بعض، فمن تعلم منه وقرأ كتابه على مر العصور فإنه لن ينس فضله.

الخاتمة

بفضل الله وكرمه ومنه تيسر لي إتمام عمل بحث (ابن سلام ناقدا)، بعد أن بينت فيه ما كان غامضا وخططت له طريقا يسيرا ممتعا شيقا دون اعوجاج فيه.

لقد وصلنا في هذا البحث إلى أن (ابن سلام) من علماء أواخر القرن الثاني من الهجرة وأوائل القرن الثالث الهجري، وأنه سلك مسلك البحث العلمي في كتابه فكان خلاصة ما قيل إلى عهده في أشعار الجاهلية والإسلام ثم زاد على معاصريه في نظرته الفنية والأدبية فهو بذلك من الذين أفسحوا ميادين النقد وهو بذلك أول المؤلفين فيه.

وأن غاية ابن سلام من تأليف كتابه لم تكن لجمع أشعار القدماء، والحديث عن أيامهم وأخبارهم فحسب، بل كانت في تخليص الشعر مما علق به من شوائب، وما كان فيه من مصنوع مفتعل، والتنبيه على مكانة كل شاعر ومنزلته من شعراء عصره، فحدد بعض الثوابت التي سيأخذ بها، ولعل من أهمها: رفضه الأخذ بما ورد في بطون الكتب من أشعار - التزامه برأي الجماعة.

واقتصر على ما لا يجهله عالم لشعر العرب وشعرائهم المشهورين فوجدهم عشر طبقات، أربعة رهط كل طبقة، فساق اختلافهم واتفاقهم ومن شعرهم الأبيات التي تكون في الحديث والمعنى.

وأن كتابه اشتمل على قضايا أبرزها: قضية انتحال الشعر الجاهلي، وفكرة الطبقات؛ فقام ابن سلام بعرضها فيحسن العرض، ويبرهن عليها فيجيد؛ ويتلمس لها الأسباب المبرهنة، ويطبقها على من يطبقها من الشعراء الجاهليين، على نحو ما جيء في البحث.

وأرجوا من الله أن يجعل هذا البحث المتواضع نافعا ينتفع به من قرأه وأسأل التوفيق والسداد.

فهرس المصادر

1 - كتاب النقد الأدبي القديم، مقرر الفرقة الثالثة من الشعبة العامة بكليات اللغة العربية والشعب المناظرة لها، إعداد: قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات ببني سويف وكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بالمنوفية.

2 - كتاب طبقات فحول الشعراء/ لمحمد بن سلام الجمحي، قرأه وشرحه/ أبو فهر محمود محمد شاكر، الناشر: دار المدني بجدة.

3 - كتاب الأعلام للزركلي، الناشر: دار العلم للملايين، الطبعة: الخامسة عشر - أيار / مايو 2002م.

4 - كتاب تاريخ النقد الأدبي عند العرب لطه أحمد إبراهيم، المكتبة الفيصلية 1425 هـ - 2004م.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)  (الأعلام للزركلي: 6/ 146).                 

(2) (ينظر في كتاب النقد الأدبي القديم: ص 221).

(3) (ينظر في كتاب تاريخ النقد الأدبي عند العرب لطه أحمد إبراهيم: 95).

(4) (الأعلام للزركلي: 6/ 146).                

(5) (ينظر في كتاب النقد الأدبي القديم: ص 221).

(6) (ينظر في كتاب النقد الأدبي القديم: ص 222، وينظر في كتاب تاريخ النقد الأدبي عند العرب لطه أحمد إبراهيم: 96 – 97).

(7) (تاريخ النقد الأدبي عند العرب لطه أحمد إبراهيم: 97).  

(8) (المرجع السابق: ص98).

(9) (كتاب طبقات فحول الشعراء: ص 4).                       

(10) (المرجع السابق: ص 4).

(11) (تاريخ النقد الأدبي عند العرب لطه أحمد إبراهيم: 98).  

(12) (كتاب طبقات فحول الشعراء: ص 8).

(13) (تاريخ النقد الأدبي عند العرب لطه أحمد إبراهيم: 98).  

(14) (كتاب طبقات فحول الشعراء: ص 8).

(15) (كتاب طبقات فحول الشعراء: ص 9).                     

(16) (المرجع السابق: ص 11).

(17) (المرجع السابق: ص 26).

(18) (ينظر في كتاب النقد الأدبي القديم: ص 227).   

(19) (ينظر في كتاب النقد الأدبي القديم: ص 227).

(20) (كتاب طبقات فحول الشعراء: ص 48).               

(21) (كتاب طبقات فحول الشعراء: ص 6 – 7).       

(22) (المرجع السابق: ص 4).

(23) (ينظر في كتاب النقد الأدبي القديم: ص 229).            

(24) (المرجع السابق: ص 222).

(25) (ينظر في كتاب النقد الأدبي القديم: ص 226).            

(26) (المرجع السابق: ص 222).

(27) (كتاب النقد الأدبي القديم: ص 222).

(28) (كتاب طبقات فحول الشعراء: ص 52).  

(29) (كتاب طبقات فحول الشعراء: ص 137).         

(30) (المرجع السابق: 2/ 545).     

(31) (المرجع السابق: ص 215).

(32) (ينظر في كتاب النقد الأدبي القديم: ص 228 – 229).

(33) (كتاب طبقات فحول الشعراء: ص 123).

(34) (ينظر في كتاب النقد الأدبي القديم: ص 228 – 229).

 

 

شوقي رائد المسرحية الشعرية في أدبنا العربي الحديث

  المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على المصطفى خير المرسلين، وشفيع ال...