الجمعة، 30 أبريل 2021

ابن سلام ناقدا


 




المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على المصطفى خير المرسلين، وشفيع العالمين، والشكور لربه والمتعبد له طوال الأيام والسنين، الذي أدى رسالته على أتم حكمة وموعظة وإرشاد وبرهان وفصاحة وأخلاق وبر حتى علا هذا الدين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد:

فقد كلفت بعمل بحث كإجراء لنجاحي بإذن الله في مادة (النقد الأدبي القديم)، ولقد منّ دكتور المادة على طلابه باختيار موضوع واحد من عدة مواضيع لعمل البحث.

ولقد قمت باختيار موضوع (ابن سلام ناقدا) بحثا عما عداه لأهميته؛ فلولاه لما تم تشييد البناء.

فهو من أوائل النقاد الذين اعتنوا بالشعر والشعراء فضلا عن أنه خص النقد الأدبي بدراسة مستقلة بعد أن كان جملا وفقرات متناثرة في بطون الكتب، ولابتكاره لبعض القضايا والأفكار.

ولقد جعلت مراجعي بعد الكتاب الدراسي: كتاب طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي، وكتاب تاريخ النقد الأدبي عند العرب لطه أحمد إبراهيم، والأعلام للزركلي، ولم أنس فضل معلمي وفضل ما ذكره لنا من معلومات قيمة في محاضراته لنا فجعلتها من ضمن بحثي بشيء من التوثيق.

ولقد كان منهجي في هذا البحث أخذ المسائل الهامة، وعدم أخذ أي حشو يطيل من البحث وهو ما لا يجوز لنا في هذا المقام، وأكثرت من الاهتمام في عرضي للموضوع بأن لا أخرج عن دائرة البساطة، فقدمت ما كان حقه التقديم وأخرت ما حقه التأخير وقد ذكر في مراجعي على غير هذا المنوال، وأظهرت شخصيتي في البحث وأشرت إلى بعض أخطاء هينة دون أن يدري القارئ المستمتع للبحث.

وكان حديثي في البحث عن التعريف بابن سلام الجمحي، وابن سلام الناقد، وغاية ابن سلام من تأليف كتابه ومنهجه الذي سلكه، وأهم القضايا النقدية التي احتوى عليها الكتاب، وأتبعت ذلك كله بخاتمة.

وأسأل الله العظيم أن ينفعني بهذا البحث وأن ينفع قارئه وأسأل من الله القبول.

ابن سلام ناقدا

المطلب الأول: التعريف بابن سلام الجمحي

هو أبو عبد الله محمد بن سلام بن عبيد الله بن سالم مولى قدامة بن مظعون الجمحي القرشي، ولد بالبصرة عام (139 هـ) أو (140 هـ) أو كما جاء في كتاب (الأعلام للزركلي) (150 هـ)

سنة (767 م) (1)، وهو من علماء أواخر القرن الثاني من الهجرة وأوائل القرن الثالث، وأخبرنا (أ.د/ صلاح الميه) في محاضراته لنا أنه سمع من شيوخ العلم والحديث والأدب وروى عنهم فنراه يتحدث عن حماد بن سلمة ومبارك بن فضالة والأصمعي ويونس بن حبيب وأبي عمرو بن العلاء وأبي عبيدة والمفضل الضبي واشتهر بسعة علمه وصدق روايته. اهـ.

"فتربى على أذواق كل هؤلاء وفي بيئاتهم وخاض في كل ما خصوا فيه من المسائل النقدية"(2)، "وهو من جملة أهل الأدب كما قال فيه الأنباري ... ونحوي ...، ولغوي عده الزبيدي الأندلسي صاحب طبقات النحويين واللغويين في الطبقة الخامسة من اللغويين البصريين. وهو يعد أحد كبار نقدة الشعر والنفاذ فيه؛ ألف كتابا أو كتابين في طبقات الشعراء" (3)، وممن روى عنه من الثقات كما أخبرنا (أ.د/ صلاح الميه) أحمد بن يحيى ثعلب، وأبو حاتم السجستاني، وأبو الفضل الرياشي، والمازني، وأحمد بن حنبل، وغيرهم، وترك العديد من المؤلفات لعل من أهمها "طبقات فحول الشعراء" و"غريب القرآن" و"بيوتات العرب" و"الفاضل في ملح الأخبار والأشعار".

وقال صاحب (الأعلام) وكان يقول بالقدر، فقال أهل الحديث: يكتب عنه الشعر، أما الحديث فلا.(4)

"ولقد قضى ابن سلام أكثر سنوات عمره بالبصرة ثم قدم بغداد عام (222 هـ) وأقام بها حتى انقضى أجله عام (232 هـ)" (5).

المطلب الثاني: ابن سلام الناقد

كانت الحاجة ماسة إلى التدوين في النقد الأدبي، كما كانت ماسة إلى تدوين الأدب، فكانت الآراء المبعثرة التي قيلت في الشعر والشعراء وما قاله الأدباء والعلماء في نقد الشعر وفي الكلام على الشعراء نواة كتاب "طبقات فحول الشعراء" لابن سلام.

ولأن ابن سلام قد تمتع بعقل واع وفكر منظم ألف كتابه عن خبرة ودربة ومهارة ودقة في الفهم؛ فنراه ينظم أفكاره، ويعرضها، ويبرهن عليها، ويستنبط منها حقائق أدبية، صحيح أن هذه الأفكار كان مشاركا لمعاصريه في جلها لكنه فحصها وحققها وأضاف إليها وصبغها بصبغة البحث العلمي وسلكها في كتابه الخاص فكان خلاصة ما قيل إلى عهده في أشعار الجاهلية والإسلام ثم زاد على معاصريه في نظرته الفنية والأدبية فهو بذلك من الذين أفسحوا ميادين النقد وهو بذلك أول المؤلفين فيه. (6)

المطلب الثالث: غاية ابن سلام من تأليف كتابه ومنهجه الذي سلكه

قد تعلمت من (أ.د/ صلاح الميه) في محاضراته لنا أن غاية ابن سلام من تأليف كتابه لم تكن لجمع أشعار القدماء والحديث عن أيامهم وأخبارهم فحسب، بل كانت في تخليص الشعر مما علق به من شوائب، وما كان فيه من مصنوع مفتعل، والتنبيه على مكانة كل شاعر ومنزلته من شعراء عصره، وفي سبيل ذلك استعرض ابن سلام معظم المقاييس النقدية التي كانت سائدة في عصره وحدد بعض الثوابت التي سيأخذ بها، ولعل من أهمها:

أ - رفضه الأخذ بما ورد في بطون الكتب من أشعار:

وذلك لأن ابن سلام يرى أن الشعر قد تداوله قوم من كتب ولم يأخذوه عن أهل البادية ولم يعرضوه على العلماء.

ب - التزامه برأي الجماعة.

وأخبرنا (أ.د/ صلاح الميه) في محاضراته لنا أن ابن سلام قد تحدث عن أهمية عمل الناقد، وهي الشروط التي يجب أن تتوافر في الناقد، وأشار إلى الثقافة والذوق والفطرة والدربة والممارسة، وذلك كي يتمكن الناقد من المهمة الملقاة على عاتقه، والتي تمكنه من تمييز الجيد من الرديء، وتخليص ذلك الشعر مما دخله من مصنوع.

وأن ابن سلام تحدث في مقدمته عن الكثير من الأمور التي تتعلق بالشعر وبداياته وبعض ما أصابه من عيوب وآفات تتعلق بالنشأة الأولى وتدلل عليه.

وتناول أبرز أخبار الشعر والشعراء وما طرأ على الشعر في الإسلام وما طرأ على اللغة العربية وأول من تحدث بها والنحو العربي ونشأة مباحثه وتطورها.

أما عن منهج ابن سلام: فقد اقتصر على ما لا يجهله عالم لشعر العرب وشعرائهم المشهورين فوجدهم عشر طبقات، أربعة رهط كل طبقة، فساق اختلافهم واتفاقهم ومن شعرهم الأبيات التي تكون في الحديث والمعنى.

المطلب الرابع: أهم القضايا النقدية التي احتوى عليها الكتاب

المتأمل في كتاب "طبقات فحول الشعراء" يلاحظ أن هذا الكتاب اشتمل على قضايا عدة أبرزها انتحال الشعر الجاهلي، وفكرة الطبقات.

القضية الأولى: قضية انتحال الشعر الجاهلي.

أولا: أما عن تعريفها فقد عرفها (أ.د/ صلاح الميه) لنا بأنها: وضع الشعر ونسبته إلى غير قائله.

ومعنى هذا أن في الشعر الجاهلي ما هو مصنوع ومنتحل، وهذا أمر قد أزعج العلماء في هذا العصر فكانت الغاية من تنبيه ابن سلام لنا، أن يشعر الأجيال القادمة بما يجب عليهم من الحذر والتبصر فيما يسند إلى الجاهلين؛ بل أراد أبعد من هذا: أراد خدمة الروح العلمية بإسناد كل قول إلى صاحبه، وكل شعر إلى عصره. (7) وقام ابن سلام بعرضها فيحسن العرض، ويبرهن عليها فيجيد؛ ويتلمس لها الأسباب المبرهنة، ويطبقها على من يطبقها من الشعراء الجاهليين. (8)

ثانيا: الأدلة التي ذكرها ابن سلام ليدلل على وجود الانتحال في الشعر:

وقد ذكر (أ.د/ صلاح الميه) في محاضراته لنا الأدلة التي ذكرها ابن سلام ليدلل على وجود هذا الانتحال في الشعر:

1 – عدم وجود قرينة على ما يتداوله الرواة مكتوبا إلى العصر الجاهلي أو منسوبا إلى العصر الجاهلي فهو لم يأت مرويا عن أهل البادية ولم يعرض على علماء العربية الثقات.

ولعل معلمي يقصد قول ابن سلام: "وَقد تداوله قوم من كتاب إِلَى كتاب، يأخذوه عَن أهل الْبَادِيَة، وَلم يعرضوه على الْعلمَاء. وَلَيْسَ لأحد - إِذا أجمع أهل الْعلم وَالرِّوَايَة الصَّحِيحَة على إبْطَال شيء مِنْهُ - أَن يقبل من صحيفَة، ولا يُروى عن صُحَفيّ". (9)

2 – ضعف مستوى ذلك الشعر:

وفي ذلك يقول ابن سلام "وفى الشّعْر مَصْنُوع مفتعل مَوْضُوع كثير لَا خير فِيهِ، وَلَا حجَّة فى عَرَبِيَّة، وَلَا أدب يُسْتَفَاد، وَلَا معنى يسْتَخْرج، وَلَا مثل يضْرب، وَلَا مديح رائع، وَلَا هجاء مقذع، وَلَا فَخر معجب، وَلَا نسيب مستطرف". (10)

وبعد أن يهيئ ابن سلام القول في الشعر الموضوع يأخذ منه مثالا بعينه، ويقبل عليه طعنا وتجريحا بكل ما يمكن من البراهين. (11)

فيقول ابن سلام: " وَكَانَ مِمَّن أفسد الشّعْر وهجنه وَحمل كل غثاء مِنْهُ مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن يسَار مولى آل مخرمَة بن الْمطلب بن عبد منَاف وَكَانَ من عُلَمَاء النَّاس بالسير ... وَلم يكن ذَلِك لَهُ عذرا فَكتب فِي السّير أشعار الرِّجَال الَّذين لم يَقُولُوا شعرًا قطّ وأشعار النِّسَاء فضلا عَن الرِّجَال ثمَّ جَاوز ذَلِك إِلَى عَاد وَثَمُود فَكتب لَهُم أشعارا كَثِيرَة وَلَيْسَ بِشعر إِنَّمَا هُوَ كَلَام مؤلف مَعْقُود بقواف". (12)

فهو يعيب على محمد بن إسحاق صاحب السيرة أنه هجَّن الشعر وأفسده، وأورد في كتابه أشعارا لرجال لم يقولوا شعرا قط، ونساء لم يقلن شعرا قط، بل أورد أشعارا لعاد وثمود! (13)

ثالثا: الأدلة التي استند عليها ابن سلام في رفضه بعض الشعر الجاهلي:

فقد ذكر (أ.د/ صلاح الميه) في محاضراته لنا تلك الأدلة التي استند عليها ابن سلام في رفضه بعض الشعر الجاهلي مقسمة إلى أدلة نقلية من القرآن الكريم وتاريخية.

أ – أدلة قرآنية: وتتمثل فيما جاء في القرآن الكريم من آيات عديدة تتحدث عن الأمم السابقة وانقطاع دابر بعضها.

فالله تعالى يقول: {وأنه أهلك عادا الأولى – وثمود فما أبقى}، ويقول في عاد: {فهل ترى لهم من باقية}.

يتابع ابن سلام فيقول: "أَفلا يرجع إِلَى نَفسه فَيَقُول من حمل هَذَا الشّعْر وَمن أَدَّاهُ مُنْذُ آلَاف من السنين". (14)

ب – أدلة تاريخية: استقاها ابن سلام من تاريخ اللغة العربية واختلاف لهجات العرب وكذلك تاريخ الشعر العربي واعتمد عليها في رفضه لبعض الشعر المنسوب إلى الجاهليين تتمثل هذه الأدلة التاريخية في:

* أن اللغة لم تكن موجودة عند عاد وثمود وليس يصح في الأذهان أن يوجد شعر بلغة لم توجد بعد فأول من تحدث بالعربية هو إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وإسماعيل كما هو معروف جاء بعد عاد وثمود.

* إن الشعر الموضوع الذي نسبه الرواة إلى قوم عاد لا يمثل لغة عاد فعاد من اليمن ولسان اليمنيين يختلف عن لسان العرب.

ويستدل على ذلك بقول أبي عمرو بن العلاء " الْعَرَب كلهَا ولد إِسْمَاعِيل إِلَّا حمير وبقايا جرهم" (15) وقوله " مَا لِسَان حمير وأقاصي اليمن الْيَوْم بلساننا وَلَا عربيتهم بعربيتنا". (16)

* إن تاريخ الأدب العربي لا يذهب بالشعر الجاهلي إلى ذلك العصر الموغل في القدم بل ازدهار الشعر لم يكن قبل الإسلام بكثير.

يقول " وَلم يكن لأوائل الْعَرَب من الشّعْر إِلَّا الأبيات يَقُولهَا الرجل فى حَاجته وَإِنَّمَا قصدت القصائد وَطول الشّعْر على عهد عبد الْمطلب وهَاشِم بن عبد منَاف. وَذَلِكَ يدل على إِسْقَاط شعر عَاد وَثَمُود وحمير وَتبع ". (17)

رابعا: عوامل ظهور الانتحال: والتي أرجعها ابن سلام إلى عاملين.

1 – العصبية القبلية: وهذا لأن بعض القبائل لما فتشت على شعرها فوجدته قليلا لضياع أغلبه أخذت تكثر منه بالانتحال. (18)

2 – الرواة الوضاعين أو عدم تنبه الرواة: كما فعل ابن إسحاق وما ذكرت فيه من قبل. (19)

وكحماد الذي قال ابن سلام عنه: "وَكَانَ أول من جمع أشعار الْعَرَب وسَاق أحاديثها حَمَّاد الراوية وَكَانَ غير موثوق بِهِ وَكَانَ ينْحل شعر الرجل غَيره وينحله غير شعره وَيزِيد فِي الْأَشْعَار". (20)

خامسا: عدة ابن سلام في التمييز بين الصحيح من المنحول.

وقد علمنا (أ.د/ صلاح الميه) في محاضراته لنا عدة ابن سلام في التمييز بين الصحيح من المنحول، فكانت في ثلاثة أمور:

1 – الذوق الشعري المكتسب من الثقافة والدربة.

بمعنى أن الناقد صاحب التذوق والثقافة والدربة وكثرة الاطلاع أجدر على معرفة الصحيح وضده. وفي ذلك يقول ابن سلام: "وللشعر صناعَة وثقافة يعرفهَا أهل العلم كَسَائِر أَصْنَاف العلم والصناعات ... وَإن كَثْرَة المدارسة لتعدي عَلي العلم بِهِ". (21)

2 – إجماع الرواة سواء على نسبة الشعر إلى أصحابه أو نسبته إلى غير أصحابه.

وفي ذلك يقول " وَلَيْسَ لأحد إِذا أجمع أهل الْعلم وَالرِّوَايَة الصَّحِيحَة على إبطَال شيء مِنْهُ أَن يقبل من صحيفَة وَلَا يرْوى عَن صحفي".

ويقول أيضا " فَأَما مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ فَلَيْسَ لأحد أَن يخرج مِنْهُ". (22)

3 – وجود الشعر في ديوان الشاعر مما دونه الرواة الثقات.

وفي كتابه إشارات كثيرة تؤكد اعتماده على روايات العلماء المشهود لهم بالأمانة والثقة.

ومما سبق يتبين لنا أن ابن سلام تناول قضية الانتحال بكل موضوعية فحقق غايته في إشعاره للأجيال القادمة بما يجب عليهم من الحذر والتبصر فيما يسند إلى الجاهلين؛ وقام بخدمة الروح العلمية بإسناد كل قول إلى صاحبه، وكل شعر إلى عصره.

سادسا: المآخذ التي وجهت إلى ابن سلام في قضية انتحال الشعر الجاهلي.

1 – وقع ابن سلام في مثل ما عابه على ابن إسحاق فأضاف إلى بعض الجاهليين ما ليس لهم، وأورد شعرا جاهليا لا يطمأن إليه.

أقول: وربما يكون ذلك ناتجا عن اعتماده على الذوق والدربة التي ليست هي مرجع يرجع إليه.

2 – أشار إلى أثر المنحول من الشعر إلا أنه لم يوقفنا على هذه الزيادات ولو فعل ذلك لنقى الشعر العربي حتى يخلوا من الارتياب.

أقول: وربما يكون ذلك من اهتمامه بتقعيد القواعد وتأسيس الأسس كي يبني عليها من بعده.

3 – جاءت بعض أحكامه النقدية غير معللة، كما أنه أهمل تحليل النصوص تحليلا يبرز مواطن الجمال فيها.

4 – ربط بين كثرة النتاج الشعري والحرب كسبب رئيس، وليس الشعر كله في الحرب. (23)

القضية الثانية: فكرة الطبقات.

أولا: تتمثل فكرة الطبقات في تقسيم الشعراء إلى طبقات، (24) فاعتمد في اختياره على الشعراء الفحول وسار في تصنيف الشعراء على ما سار عليه من قبله؛ فشعراء الجاهلية في طبقات، وشعراء الإسلام والمخضرمين في طبقات كل على استقلال. (25)

وقد علمنا (أ.د/ صلاح الميه) في محاضراته لنا أن الكتاب يشتمل على أكثر من مائة وأربعة عشر شاعرا جاء تقسيمها كالآتي:

1 – طبقات الشعراء الجاهليين: وهي عشرة، في كل طبقة أربعة شعراء.

2 – طبقات الشعراء الإسلاميين: وهي عشرة، في كل طبقة أربعة شعراء.

3 – طبقات شعراء المراثي: وتضم ثلاثة شعراء وشاعرة وهي الخنساء، وهي المرأة الوحيدة التي أوردها ابن سلام في طبقاته.

"وسبب جعل شعراء المراثي بموضع خاص في كتابه؛ فهو بهذا يتجه إلى تمييز الفنون الشعرية بعضها عن بعض؛ وكأنه يشير بهذا إلى تنسيق الاتجاهات الفنية". (26)

4 – طبقة شعراء القرى: وتشتمل على ثلاثين شاعرا (وليس اثنين وعشرين شاعرا) قسمهم على النحو الآتي:

أ – شعراء المدينة وهم خمسة، ثلاثة من الخزرج واثنان من الأوس.

ب – شعراء مكة وهم تسعة.                        ج – شعراء الطائف وهم خمسة.

د – شعراء البحرين وهم ثلاثة.                     هـ - شعراء اليهود وهم ثمانية شعراء.

"وسبب جمع ابن سلام شعراء القرى في حديث واحد فلأنه قد عرف أثر الإقليم الذي ينشأ فيه الشاعر". (27)

ولا يخضع ترتيب ابن سلام لأي معيار نقدي، فلا يعني أن الطبقة الأولى أفضل من الطبقة الأخيرة، أو أن شاعرا أعلى مكانة على باقي الشعراء.

لكنه يورد آراء العلماء واختلافهم في المفاضلة بين شعراء الطبقة، فقال:

"أخبرني يُونُس بن حبيب: أَن عُلَمَاء الْبَصْرَة كَانُوا يقدمُونَ امْرأ الْقَيْس بن حجر، وَأهل الْكُوفَة كَانُوا يقدمُونَ الْأَعْشَى، وَأَن أهل الْحجاز والبادية كَانُوا يقدمُونَ زهيرا والنابغة" (28)

وهذا لا يمنع ابن سلام من إبداء رأيه - في حالات قليلة - سبب تقديم شاعر على آخر عند مصر من الأمصار، وليس هذا بعيب لأنه من باب التوضيح لمتعلمه.

ثانيا: مقاييس ابن سلام في مفاضلته بين الشعراء وتصنيفهم في طبقات.

اعتمد ابن سلام في مفاضلته بين الشعراء وتصنيفهم في طبقات تبين مكانتهم الأدبية ومرتبتهم الشعرية على ثلاثة مقاييس عامة ذكرها (أ.د/ صلاح الميه) في محاضراته لنا:

1 – كثرة شعر الشاعر: فقد اعتمد ابن سلام عليه في المفاضلة بين الشعراء فيما نراه في تبرير تأخر منزلة طرفة بن العبد وعبيد الأبرص وعلقمة بن عبدة وعدي بن زيد إلى الطبقة الرابعة إذ يقول " وهم أَرْبَعَة رَهْط فحول شعراء، موضعهم مَعَ الْأَوَائِل، وَإِنَّمَا أخلَّ بهم قلَّة شعرهم بأيدي الروَاة". (29)

2 – تعدد أغراضه: ويتمثل في تبريره تقديم كثير عزة في الطبقة الثالثة على جميل بثينة الذي وضعه في الطبقة السادسة يقول "وَكَانَ لكثير فِي التشبيب نصيب وافر وَجَمِيل مقدم عَلَيْهِ وعَلى أَصْحَاب النسيب جَمِيعًا فِي النسيب وَله فِي فنون الشّعْر مَا لَيْسَ لجميل". (30)

3 – جودة شعره: فيتمثل في قوله في حسان بن ثابت " وَهُوَ كثير الشّعْر جَيِّدَه". (31)

ثالثا: المآخذ التي وجهت إلى ابن سلام في فكرة الطبقات.

1 – اعتمد في تقسيم الشعراء على أساس كثرة النتاج الشعري، ولم يلتزم بذلك، فقد كان يراعيه حينا ويتركه حينا؛ فمثلا وضع طرفة في الطبقة الرابعة مع جودة قصائده وكثرتها، ووضع لبيد في الطبقة الثالثة، ووضع عمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة وعنترة بن شداد مع جودة شعرهم في الطبقة السادسة وقدم عليهم من هم أقل منهم شعرا وجودة.

2 – وفق ابن سلام في التفرقة بين الجاهليين من سكان البادية والجاهليين من سكان القرى، إلا أنه لم يتعرض لمكانة شعراء أهل القرى ولم يذكر لنا منزلة بعضهم كحسان بن ثابت وغيره من الشعراء.

3 – أهمل بعض فحول الشعراء مثل عمر بن أبي ربيعة والطرماح بن حكيم والكميت الأسدي ومكانتهم لا تنكر في الشعراء الإسلاميين.

4 – ذكر بشامة بن الغدير وأبا زيد الطائي ضمن الشعراء الإسلاميين مع أنهما جاهليان. (32)

وذكر (أ.د/ صلاح الميه) في محاضراته لنا أن ابن سلام وضع بعض المخضرمين ككعب والحطيئة والنابغة الجعدي ولبيد والكميت في طبقات الجاهليين دون أن يقدم سببا واحدا يبرر هذا الصنيع مع أنه قال في ترجمته للنابغة الجعدي "وَكَانَ النَّابِغَة قَدِيما، شَاعِرًا مُفـْلـِقَا، طَوِيل الْبَقَاء فى الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام". (33)

5 – ضم الراعي إلى الثلاثة الإسلاميين وعده في طبقتهم من غير حجة ولا دليل. (34)

إلا أنه في نهاية الأمر سيظل ابن سلام رائدا لأنه من أوائل النقاد الذين اعتنوا بالشعر والشعراء فضلا عن أنه خص النقد الأدبي بدراسة مستقلة بعد أن كان جملا وفقرات متناثرة في بطون الكتب، ولابتكاره لفكرة تقسيم الشعراء إلى طبقات، فضلا عن أن كتابه يعد من أوائل المصادر النقدية الأساسية فإنه يمثل دورا وسيطا في التأليف الإسلامي إذ إنه خروج من التقيد اللفظي بالروايات المفردة مثبتة بعد أسانيدها إلى التحلل من قيد الرواية باختصار الأسانيد وبجمع بعض الروايات إلى بعض، فمن تعلم منه وقرأ كتابه على مر العصور فإنه لن ينس فضله.

الخاتمة

بفضل الله وكرمه ومنه تيسر لي إتمام عمل بحث (ابن سلام ناقدا)، بعد أن بينت فيه ما كان غامضا وخططت له طريقا يسيرا ممتعا شيقا دون اعوجاج فيه.

لقد وصلنا في هذا البحث إلى أن (ابن سلام) من علماء أواخر القرن الثاني من الهجرة وأوائل القرن الثالث الهجري، وأنه سلك مسلك البحث العلمي في كتابه فكان خلاصة ما قيل إلى عهده في أشعار الجاهلية والإسلام ثم زاد على معاصريه في نظرته الفنية والأدبية فهو بذلك من الذين أفسحوا ميادين النقد وهو بذلك أول المؤلفين فيه.

وأن غاية ابن سلام من تأليف كتابه لم تكن لجمع أشعار القدماء، والحديث عن أيامهم وأخبارهم فحسب، بل كانت في تخليص الشعر مما علق به من شوائب، وما كان فيه من مصنوع مفتعل، والتنبيه على مكانة كل شاعر ومنزلته من شعراء عصره، فحدد بعض الثوابت التي سيأخذ بها، ولعل من أهمها: رفضه الأخذ بما ورد في بطون الكتب من أشعار - التزامه برأي الجماعة.

واقتصر على ما لا يجهله عالم لشعر العرب وشعرائهم المشهورين فوجدهم عشر طبقات، أربعة رهط كل طبقة، فساق اختلافهم واتفاقهم ومن شعرهم الأبيات التي تكون في الحديث والمعنى.

وأن كتابه اشتمل على قضايا أبرزها: قضية انتحال الشعر الجاهلي، وفكرة الطبقات؛ فقام ابن سلام بعرضها فيحسن العرض، ويبرهن عليها فيجيد؛ ويتلمس لها الأسباب المبرهنة، ويطبقها على من يطبقها من الشعراء الجاهليين، على نحو ما جيء في البحث.

وأرجوا من الله أن يجعل هذا البحث المتواضع نافعا ينتفع به من قرأه وأسأل التوفيق والسداد.

فهرس المصادر

1 - كتاب النقد الأدبي القديم، مقرر الفرقة الثالثة من الشعبة العامة بكليات اللغة العربية والشعب المناظرة لها، إعداد: قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات ببني سويف وكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بالمنوفية.

2 - كتاب طبقات فحول الشعراء/ لمحمد بن سلام الجمحي، قرأه وشرحه/ أبو فهر محمود محمد شاكر، الناشر: دار المدني بجدة.

3 - كتاب الأعلام للزركلي، الناشر: دار العلم للملايين، الطبعة: الخامسة عشر - أيار / مايو 2002م.

4 - كتاب تاريخ النقد الأدبي عند العرب لطه أحمد إبراهيم، المكتبة الفيصلية 1425 هـ - 2004م.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)  (الأعلام للزركلي: 6/ 146).                 

(2) (ينظر في كتاب النقد الأدبي القديم: ص 221).

(3) (ينظر في كتاب تاريخ النقد الأدبي عند العرب لطه أحمد إبراهيم: 95).

(4) (الأعلام للزركلي: 6/ 146).                

(5) (ينظر في كتاب النقد الأدبي القديم: ص 221).

(6) (ينظر في كتاب النقد الأدبي القديم: ص 222، وينظر في كتاب تاريخ النقد الأدبي عند العرب لطه أحمد إبراهيم: 96 – 97).

(7) (تاريخ النقد الأدبي عند العرب لطه أحمد إبراهيم: 97).  

(8) (المرجع السابق: ص98).

(9) (كتاب طبقات فحول الشعراء: ص 4).                       

(10) (المرجع السابق: ص 4).

(11) (تاريخ النقد الأدبي عند العرب لطه أحمد إبراهيم: 98).  

(12) (كتاب طبقات فحول الشعراء: ص 8).

(13) (تاريخ النقد الأدبي عند العرب لطه أحمد إبراهيم: 98).  

(14) (كتاب طبقات فحول الشعراء: ص 8).

(15) (كتاب طبقات فحول الشعراء: ص 9).                     

(16) (المرجع السابق: ص 11).

(17) (المرجع السابق: ص 26).

(18) (ينظر في كتاب النقد الأدبي القديم: ص 227).   

(19) (ينظر في كتاب النقد الأدبي القديم: ص 227).

(20) (كتاب طبقات فحول الشعراء: ص 48).               

(21) (كتاب طبقات فحول الشعراء: ص 6 – 7).       

(22) (المرجع السابق: ص 4).

(23) (ينظر في كتاب النقد الأدبي القديم: ص 229).            

(24) (المرجع السابق: ص 222).

(25) (ينظر في كتاب النقد الأدبي القديم: ص 226).            

(26) (المرجع السابق: ص 222).

(27) (كتاب النقد الأدبي القديم: ص 222).

(28) (كتاب طبقات فحول الشعراء: ص 52).  

(29) (كتاب طبقات فحول الشعراء: ص 137).         

(30) (المرجع السابق: 2/ 545).     

(31) (المرجع السابق: ص 215).

(32) (ينظر في كتاب النقد الأدبي القديم: ص 228 – 229).

(33) (كتاب طبقات فحول الشعراء: ص 123).

(34) (ينظر في كتاب النقد الأدبي القديم: ص 228 – 229).

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شوقي رائد المسرحية الشعرية في أدبنا العربي الحديث

  المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على المصطفى خير المرسلين، وشفيع ال...