السبت، 31 أغسطس 2019

الأخذ والعطاء


الأخذ والعطاء



تمهيد: الإنسان مهما لو بلغ به الحال فإنه لا يستطيع اتخاذ قرار الانفصال عن المجتمع، وهذا ليس من أجلهم، وإنما من أجل الحاجات التي يريد أن يمتلكها من غيره أو أشياء يريد أن يعطيها لغيره لسبب ما.
وهذا ما يسمى بالأخذ والعطاء.
وتتدرج أهمية الأخذ والعطاء في الشيء موضوع أحدهما من حيث كونه وضيعا أو نفيسا.
ومن هنا سنتحدث عن البشر من حيث طريقتهم في الأخذ والعطاء.
الأخذ عند البشر
اعلم يا أخي الحبيب أن فكرة الأخذ بالنسبة للإنسان من أوليات الأشياء التي يجري وراءها، فمهما أخذ فإنه لا يشبع أبدا.
فعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب}. (1)
وللأخذ أحوال أربعة بالنسبة للإنسان:
فالحالة الأولى: الوجوب.
بمعنى أن هلاكه أو هلاك أحد مقرب له في عدم أخذه شيئا ما.
والحالة الثانية: السعي.
بمعنى أن يسعى وراء الشيء ليأخذه لأن الغنى والرفعة فيه.
والحالة الثالثة: الاستحباب.
وتكون في قبول الهدايا من الغير عن طريق المفاجأة.
والحالة الرابعة: الهرب.
وتكون في عدم استحبابه للشيء لأنه يظن أن فيه هلاكه.
وكيفية الأخذ تختلف من شخص لآخر إلا أن للأخذ ثلاث صور:
الصورة الأولى: المبادلة.
وتكون في الأشياء التي من المفترض على من تبادله أن لا تُذكّرَهُ بالأخذ، بل أنه يعطيك بدون طلب.
وهذه المبادلة تتدرج أهميتها في الشيء موضوع الأخذ من حيث هي وضيعة أو نفيسة، لأنها إن كانت وضيعة وتدرجت إلى صورة أخرى غير المبادلة فإنها تحفظ في الذاكرة، أما إن كانت نفيسة فإنها تكون من أقوى أسباب الخصومة بين الطرفين.
الصورة الثانية: الطلب.
وهي أن تطلب حقك في أخذ الشيء إن كان لك حق فيه، أو تطلب شيئا ترغب فيه.
أما عن أن تطلب حقك في أخذ الشيء إن كان لك حق فيه: فإن أخذته بزيادة ففيه محبة، وإن أخذته بدون زيادة أو نقصان ففيه الرضا، وإن أخذته ناقصا عن حقك ففيه حزن دفين، وإن لم تأخذه ففيه سماحة عنه أو خصومة إلى أن تأخذ حقك بأية طريقة.
أما عن أنك تطلب شيئا تريده: فتختلف طريقتك في الطلب على حسب الشيء المطلوب وعلى حسب شخصية من تطلب منه.
فنراك مستقيما في الطلب إن كان ما ترغب فيه ليس فيه أية تجاوزات، ونراك بكاء إن لم يكن لك عينا في أن تطلب ما تريد وقد تجاوزت حدك، ونراك كالطفل إن كنت لا تخشى من تتحدث معه، ونراك صاحب كلمات عذبة إن كنت أقل شأنا ممن تخاطبه وله من الإجلال والاحترام ما له، ونراك عنيفا إن كنت تظن أنك تستحق ما تطلب أو تظن أنك تأوي إلى ركن شديد.
الصورة الثالثة: أن يأتيك شيء ما وكأنه يريد منك أن تأخذه أو تسعى خلفه.
أحيانا في ساعة من ليل أو نهار تأتيك هدية من الهدايا، وهذه الهدية إما أن تكون أمامك ولم يبق سوى أن تأخذها، وإما أن تكون منحة إلهية تهديك إلى المعالي والفلاح.
أما عن الهدية التي أمامك ولم يبق سوى أن تأخذها فأنت بالخيار، فإن شئت أن تأخذها فخذها وإن لم تشأ فلا.
ومثالها: أن تتفاجأ من أن صديقك قد أرسل لك هدية ما لم تكن تتوقعها فأنت بالخيار بين القبول والرفض.
أما عن المنحة الإلهية التي تهديك إلى المعالي والفلاح فهذه تأتيك بعدما قد سهرت الليالي حزينا مهوما مغموما، وشعرت بالضيق والاختناق من كثرة البلايا الممطرة على رأسك، فبعدها تأتيك هذه المنحة إلا أنك إن لم تأخذها فلن تأتيك مرة أخرى وإن قبلتها فليس من الهين أخذها إلا بعد السعي الجاد للحصول عليها لتعرف قيمتها وفي نفس الوقت تتعرف على حقيقتك التي لا تعرفها من سلبيات وإيجابيات، إلا أنك ستمتلكها بعد سعيك وستكون سببا كبيرا في تغيير حياتك.
ومثال المنحة الإلهية: طريقة العلاج من مرض خطير أو زوجة صالحة أو حصولك على تقدير عالي في جامعتك ولم يبق لك سوى الدخول في مراحل الدراسات العليا.
العطاء عند البشر
اعلم يا أخي الحبيب أن فكرة العطاء بالنسبة للإنسان صعبة، وليست بالأمر الهَيِّنْ، فالإنسان قتور.
قال تعالى: {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا}. (2)
ولكن العطاء يكون بأحد شيئين:
الأول: بنفس راضية.
والثاني: بنفس ساخطة.
إلا أن الأخيرة ظاهرها عطاء ولكن باطنها مسماه تنازل.
والعطاء عند البشر له سبعة أوقات:
الوقت الأول: تنفيذ أمر الله.
وهو أن يأتي وقت إخراج الزكاة فتزكي، أو وقت الأضحية فتضحي، أو وقت كفارة عن أعمالك فتخرج نفسك من المأزق الذي وُضِعْتَ فيه أو كفارة عن أحد المقربين إليك وقد مات، أو النفقة على الأهل والعيال، أو أن تخرج صدقة تتصدقها من أجل تنفيذ أمر الله بإخراج الصدقات.
وهنا تنقسم النفوس إلى نفس راضية ونفس نسيت أن الله هو الرزاق المعطي الغني الحميد.
الوقت الثاني: وقت الرخاء.
وهو أن تقوم بمساعدة المحتاجين أو تسعد الآخرين من خلال أمور مادية كتوزيع الجوائز وكفالة طالبي العلم واليتامى دون انتظار المقابل من أجل إسعاد نفسك ونيل الثواب ورضا المولى عنك فيفرج عنك في وقت الشدة التي لا تعلم شيئا عن ميعادها.
فإن كانت من نفس راضية فهي من أجل صفائها ونقائها وعدم فسادها، وإن كانت من نفس متقلبة لا يُعرف عنها غير السخط فلأن النفس مهما لو بلغت في درجات البخل والفساد إلا أنها قد بقي فيها من الصلاح والإحسان شيء، وهذا الشيء ليس له وقت محدد.
الوقت الثالث: وقت الشدة.
ففي وقت الشدة تجد النفوس البشرية تلجأ إلى الله بالدعاء وطلب الفرج ونجدهم يقومون بشيء عجيب، ألا وهو العطاء.
بمعنى أنه إذا مر سائل أمامهم فإنهم يعطونه بنفس تطلب الرضا، لا لأنها نفس راضية، بل لأنها تبتغي رضا المولى عز وجل في أن يفرج عنهم ما هم فيه.
الوقت الرابع: وقت الغصب.
وهو أن تستميل غيرك بالعطاء من أجل عدم مهاجمته لك أو لغيرك أو من أجل أن يصمت عن شيء يخصك فلا يفضحك أو يخص غيرك فلا يؤذيه.
أما عن عدم مهاجمته لك فتجدها غالبا في شخص يريد قتلك أو يريد أذاك فتستميله بالعطاء من أجل أن يتركك.
وأما عن عدم مهاجمته لغيرك فتجدها في شخص يريد أن يؤذي أحد المقربين منك فتعطيه مالا أو فدية كي يتركه وشأنه، ويكون غالبا في عمليات ما قبل القتل وأشباهها، أو في عمليات الخطف التي تحدث.
أما عن الشق الآخر وهو من أجل أن يصمت عن شيء يخصك فلا يفضحك أو يخص غيرك فلا يؤذيه، فأحيانا تكون لك ملفات قديمة إن وصل إليها أحد غيرك فإن نكد المعيشة قد بدأ، أو يكون لأحد المقربين لك ملفات قديمة فنراك في الحالتين تقوم بصفقة العطاء إن لم تجد لغيرها بديلا.
الوقت الخامس: وقت المبادلة.
المبادلة كما هو معروف تكون في الأعمال المشروعة والغير مشروعة.
أما عن الأعمال المشروعة ففي البيع والشراء ودفع الأجور للعمال سواء بزيادة أو بنقصان.
وأما عن الأعمال الغير مشروعة فتكون في الرشوة وغسيل الأموال وطرق السرقة الباطنة التي تسمى بالاحتيال وما شابه ذلك.
فهذا كله من باب المبادلة لأنك تأخذ عوض أو مقابل إلا أن هذا العوض أو المقابل معروف بالنسبة لك.
الوقت السادس: المقابل المستقبلي.
وهو أن تحسن لشخص ما عامدا متعمدا من أجل منفعة غير معلومة ستأخذها منه في المستقبل عند الحاجة له.
وتدخل فيه الأمور الغير مشروعة التي لا ترضاها النفس الطيبة كالوساطة وأمثالها.
وتدخل فيه الأمور المشروعة كأن تدعوه لوليمة لك، أو تساعده مساعدة حسنة ليس فيها شيء غير مشروع.
وصورته: أن أحْسِنَ لفلان لأنني في يوم ما سأحتاج إليه فلكي أنجح في أخذ المنفعة وقتها أ ُحْسِن إليه أولا.
فإن كانت من نفس ساخطة فتكون في الأمور الغير مشروعة والمشروعة، وإن كانت من نفس راضية فتكون في الأمور المشروعة.
وأهل هذا الوقت مذهبهم هو: أطعِم الفم، تستحي العين.
الوقت السابع: الاستغناء عن الشيء المعطى.
وهو أن تعطي أحدهم شيئا تمتلكه من أجل امتلاكك ما هو أعلى منه قيمة، أو أن هذا الشيء أوشك أن يتلف وتقدر على امتلاك غيره أو ما هو أعلى منه قيمة.
وهذا منتشر بين أصحاب النفوس الطيبة الراضية، إلا أن ثلة من البخلاء يختارون الأخيرة وهي أن الشيء المعطى أوشك على التلف ويقدرون على امتلاك غيره أو ما هو أعلى منه قيمة، فيعطونه للغير وأنفسهم مليئة بالضغينة والسخط وكأنهم أعطوا جنة الفردوس لآخذها ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الخاتمة
إن أردت الأخذ الحقيقي فعليك بقول الله تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}. (3)
وإن أردت منهجا للعطاء فعليك بقول الله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}. (4)
ففي هذا يكون الغنى والفلاح، والرضا والطمأنينة والرشاد.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه: إبراهيم محمد إبراهيم الصياد.
حرر بعد عصر يوم السبت الموافق:
1 محرم 1441 هـ.
31 أغسطس 2019 م.
25 مسري 1735 ق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) {شرح النووي على مسلم: الجزء السابع ص113}.
(2) {سورة الإسراء: 100}.
(3) {سورة الطلاق: 3}.
(4) {سورة الإسراء: 29 - 30}.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شوقي رائد المسرحية الشعرية في أدبنا العربي الحديث

  المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على المصطفى خير المرسلين، وشفيع ال...