الثلاثاء، 25 فبراير 2020

المنح والمحن


المنح والمحن



تمهيد:
ليس من السهل على الإنسان أن يفوز بمنحة ما، وكذلك ليس من الهين على المرء أن تضيق عليه الدنيا بما رحبت، وليس تعامل الأنام معك في وقت المحنة هو ذاته في وقت المنحة، وإذا كان الضد فكذلك.
ومن هنا سنتحدث عن اختلافات الناس معك في وقت المنح والمحن حتى نعرج على أسباب ذلك الاختلاف في التعامل، إلى أن نصل إلى نتيجة لتكون سببا في هدايتنا نحو الرشاد.
الواقع الحقيقي للإنسان بعد إصابته بالمنح والمحن
المنحة: هي عطية ربانية تأتي اختبارا أو لطفا خفيا بالعبد.
ومعنى اختبارا: أي كقصة الأبرص والأقرع والأعمى.
ومعنى لطفا خفيا بالعبد: أي أنها إن لم تأتي لأوشك العبد على التهلكة.
وفائدتها: الوصول إلى الدرجة المنتظرة وتحقيق الغايات.
والإنسان عندما تصيبه منحة ربانية فإنه فرح فخور.
قال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ}. (1)
أما المحنة: فهي مجيء ما لا يرجى زيارته اختبارا أو تمهيدا لخير قادم.
ومعنى اختبارا: لكي يظهر المؤمن الصابر من اليائس القنوط.
ومعنى تمهيدا لخير قادم: كأفعال الخضر مع السفينة والغلام.
والإنسان عندما يتفاجأ بزيارتها فإنه ييأس ويقنط.
قال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ}. (2)
فتلك هي الحقيقة، وهذا هو الواقع الحقيقي للإنسان بعد إصابته بالمحنة أو المنحة.
وتعامل الناس معك عند إصابتك بالمنحة أو المحنة ينقسم إلى مذاهب على نحو ما سيأتي.
مذاهب البشر معك عند المنح
عندما تصيبك نعمة من نعم الله، وحصلت على أكثر مما كنت تتوقعه أنت من تكريم، فاعلم أن تعامل الناس معك سيختلف من شخص إلى آخر على نحو ما سنذكره لك.
المذهب الأول: الشعور بالغيرة والحسد والنقمة عليك.
وهم الأكثرية التي أتوقع لك أن تراها، خاصة إذا كنت تأوي إلى ركن ضعيف، أو إن لم يكن لك ركنا تأوي إليه.
فأغلب من تعرفهم وكنت تظنهم أحبابا لك وإخلاصهم لك كبير، هم الآن يحسدوك ويشعرون بالغيرة والنقمة عليك.
وهؤلاء لكي تتغلب عليهم فعليك بكتم المنح التي حصلت عليها، ولا تكترث لهم واستزد نجاحا وتفوقا حتى يموتوا بغيظهم، فعسى بذلك أن تجد لنفسك مخرجا.
المذهب الثاني: اقتراب من هجروك.
فأنت كلما أصابتك منحة جديدة، فاعلم أنك ستجد من كان لا يسأل عليك بالأمس يأتيك مهرولا فرحا مشتاقا للقائك بحجة أنك فعلتها، بينما كان بالأمس القريب لم يأتيك إلا في أيام قليلة، أو كان يكره مجالستك، أو لم يكن يود أن يصاحبك.
وهذا لأنك بالنسبة له قد فعلتها، فلقد تغير حالك من حال أقل شأنا إلى حال أعلى شأنا.
فهو بالأمس كان يظن أنه من الصعب عليك أن تكون أهلا لمجالسته، بينما بسبب المنحة التي قد جاءتك فإنك الآن قد استحققت أن تجالسه.
وهؤلاء هم أهل المصلحة، أو بعبارة أخرى: هم أهل الغدر عند تقلب الأحوال.
فهم يا صديقي إذا ارتقوا أكثر فوصلوا إلى درجة أعلى من درجتك سيرجعون إلى عدم سؤالهم عليك، بل تتفاجأ بمهاجرتهم لك.
وكذلك إن أصابتك الدواهي، فنزلتَ درجة، فسيفعلون هذا مع شعورهم بالارتياح النفسي من مهاجرتهم لك بحجة جديدة.
ألا وهي: أنك أنت من تغيرت عليهم، وليسوا هم من تغيروا وتبدلوا من صورة إلى صورة.
فاحذر منهم، ولا تخبرهم أسرارك، ولذلك تعامل معهم معاملة الإسلام، فمن الممكن أن تستفيد منهم في شيء، أو من الممكن أن يندم مسيء منهم على إساءته، فيكون خليلك في الدنيا والآخرة.
المذهب الثالث: هجرة من كانوا بمنزلتك بالأمس بسبب تفوقك عليهم.
بمعنى أن لك مقربين في الزمان الماضي، وكنتم في درجة واحدة، فعندما أتتك المنحة هجرك مقربوك مرة واحدة، لأنك قد صرت أعلى درجة منهم.
والسبب راجع إلى شيء من أمرين:
الأول: شعورهم بالذلة والانحطاط: بمعنى أنهم يشعرون دائما بقلة الحيلة للتخلص من ضياعهم في شيء ما، وأنت قد أصابتك المنحة هكذا بدون كد ولا تعب مثلما يظنون أن ما يقومون به كد وتعب.
الثاني: شعورهم بفشلهم من تمثيلهم عليك وكأنك كنت من تقوم بعملية التمثيل عليهم.
بمعنى أنهم كانوا لا يصاحبوك حبا فيك، ولكن كانت تلك المصاحبة مصاحبة المواساة.
ومصاحبة المواساة: هي أن تصاحب شخصا في درجتك لتشعر أنك لست التائه الوحيد في هذا العالم.
وهذه المصاحبة مبنية على التمثيل من الطريفين بأنها صداقة قوية وجذورها قوية، بينما النفس تضمر براعة في التمثيل لا أقل ولا أكثر.
ومن هنا يظهر لك الصديق الوفي من الصديق الذي لم يكن يصاحبك حبا فيك وإنما للمواساة ونسيان الهموم فقط.
وهجرة هؤلاء لك لن تقف عند هذا الحد، وإنما سيحاولون أن يخبروا العالم بترديد حالتك القديمة التي كنت فيها ليشعروا بنفس الغرض العام لصحبتهم القديمة لك.
والغرض من هذا كله: المواساة.
وهؤلاء لا تأبه بهم، ولا تحزن على فراقهم، فلقد عرفت معدنهم الحقيقي، ويكفيك هذا لتستأنف طريقك إلى العلياء.
المذهب الرابع: العداء التام من هؤلاء الذين كانوا ينتظرون منك أن تبقى ذليلا عندهم.
وهناك جماعة في القدم كانوا ينظرون لك من فوق وينتظرون منك الذلة والاستكانة لهم لكي يرضوا عنك.
وهؤلاء جماعة يعرفون ب: ضعاف العقول.
وأنت الآن قد أصابتك منحة، فأصبحت في درجة أعلى من درجتهم، ووصولك لهذه الدرجة لم يكن عن طريق الذلة والمهانة لهم، بل إنك أشعرتهم بثقب في القلب وشلل في التفكير وقلة حيلة وضعف في العقل.
وكأنك يا صديقي تقول لهم: أنتم لا شيء.
وهم لا يريدون أن يستسلموا لتلك الحقيقة، فهم أهل ستار على حقيقة وصولهم لما هم فيه من مراتب ودرجات.
فكيف بك تصل إلى درجة أعلى من درجتهم؟
إنهم سيهجرونك هجرة تامة، وسيحاولون من بعيد أن يحطموك ويكسروا شوكتك بكل السبل الممكنة.
بل الأنكى من ذلك:
إذا كان شأن من شئونك مترابط معهم بلقياكم، فإنك حينها لن تجد خيرا أبدا إلا إذا لم تأبه بهم وطرقت على باب العلياء واستزدت من الخيرات ما هو أكثر.
ولذلك عاملهم معاملة خاصة، فانظر إلى معاملتك للمجانين واجعل معاملتك معهم مبنية على تلك، مع الحكمة والتروي في طريقة أخذ حقوقك منهم، والاستزادة من الخيرات.

واعلم أنهم سيقوموا بالاتفاق على أمرين:
الأمر الأول: عدم الحياء في طلبهم منك شيئا.
بمعنى أنهم إذا أرادوا شيئا، وهذا الشيء لن يتحقق إلا بالاحتياج إليك، فإنهم سيطرقون عليك الأبواب لتساعدهم في تحقيق رغباتهم.
فإن ساعدتهم: فإنهم سيزدادون عليك نقمة في صدورهم.
وإن لم تساعدهم: فسيزدادون غضبا منك إلا أنهم سيشعرون بأنك قد كسرت قلوبهم فسيحفظونها لك إلى أجل غير مسمى.
الأمر الثاني: المراقبة عن بعد.
بمعنى أنك ستكون شغلهم الشاغل، فيراقبوا حركاتك وسكناتك بدون أن تدري، وذلك لأنك إن ازدت نجاحا فإما أن يقرروا الاستسلام للأمر الواقع، أو يزدادون نقمة عليك، أو يزدادون هجرانا لك.
إلا أن مراقبتهم ليس من وراءها إلا رجاء، وهو أن تصيبك محنة ما تجعلك تخسر كل ما فزت به، وذلك من أجل أن يشعروا بالراحة التي فقدوها والانتصار الذي أرادوه.
فإن أصابتك محنة فاعلم أن مذاهب البشر ستختلف اختلافا بين على نحو ما سأذكره لك.
مذاهب البشر معك عند المحن
عندما تصيبك محنة لم تكن تتوقعها، فَهَدَمَتْ سعادتك، وَأرَّقَتْ راحتك، فاعلم أن البشر سيختلفون في التعامل معك عما كانوا عليه في وقت المنح، لأن صورتهم الحقيقية ستظهر لك الآن، ومذاهبهم ستتراءى لك.
المذهب الأول: هجرانهم لك.
وهؤلاء هم من كانوا ينتظرون مجيء المحنة لك لكي يبصروا بالراحة الكبرى التي فقدوها، فقد صرت منهم، بل أمسيت أقل منهم شأنا، ولذلك سيهجرونك ولن يتعاملوا معك باحترام بعد الآن، بل قد أصابهم العمى عند النظر إليك ولن يعطوك مما أعطاهم الله إلا إذا أراد الله.
فقد أصبحت بالنسبة لهم ورقة كشفت فأحرقت فصارت رمادا منثورا.
المذهب الثاني: الاستهزاء بك.
وهو ما يسمى بالتشفي.
وهو ما يصدر من العدو الحاقد عليك، وإن لم يكن مظهر لك العداوة من قبل.
فهو إما أن يكون مضمر لك الحقد في الماضي، وإما أنه كان من هؤلاء الذين هجروك في الماضي وكان يعلم عنك النجاح والتفوق الذي كنت فيه وهو كان أقل منك شأنا.
وأغلب حديثهم عنك سيكون في موضوع محدد وهو: مثل هذا لا يدوم له نجاحا.
وإن سألتهم: لماذا؟
فإن الجواب: لأنك ظننت أنك الأفضل علينا جميعا بينما نحن الأفضل منك.
المذهب الثالث: معاداتك واستعبادك.
وهؤلاء فيمن يحكمون عليك أشياء غير حقيقية.
فتراهم يقومون بتأليف روايات عليك بأنك قد سرت في طريق منحرف حتى وقعت في التهلكة، ولذا وجب عليهم أن يعادونك بإهمالك وعدم تنفيذ رغباتك مهما كلف الأمر.
 أوجه الاتفاق بين المذاهب الثلاثة
أما عن أوجه الاتفاق فهناك ثلاثة أوجه.
الوجه الأول: مهاجرتهم لك.
بمعنى أن تعيش معهم، إلا أنك كالميت الذي دفن في مقابر المعمورة، فلن يسألوا عليك إلا قليلا، وذلك للتأكد من حالتك الجديدة التي تعيشها بأنها ما زالت موجودة.
الوجه الثاني: استحقارك.
بمعنى أنهم لن يجعلوك أهلا للمشورة بعد الآن، فآرائك لن يسمع لها، ومعاملتهم تزداد سوءا يوما بعد يوم.
الوجه الثالث: العمل على عدم رجوعك لما كنت عليه فيما قبل.
بمعنى أنك ستجدهم يعملون على شيء واحد، فوجهتهم إليك ستكون مبنية على هذا الأمر وهو: العمل على عدم إرجاعك لما كنت عليه من قبل.
بل ستجد طائفة تتعاون على هدمك أكثر فأكثر لكي تزداد أرقا.
الأسباب التي أدت بهم إلى اختلاف مذاهبهم في المنح والمحن
وهناك أسباب متعددة لاختلاف مذاهبهم في المنح والمحن.
السبب الأول: عقدة النقص.
بمعنى أن الشخص الذي أمامك يشعر بعقدة نقص داخلية ووجدانية، فعندما يراك قد ارتفعت درجة فقد ذكرته بتلك العقدة وكأنك أنت السبب في بناءها، وإن انخفضت درجة فإنه يطلب الشفاء منها بإهانتك واستحقارك.
السبب الثاني: وصولك للنجاح بمفردك.
بمعنى أنك وصلت للنجاح بمفردك بدون تدخل منهم أو وصلت له في وقت قصير.
فهم حينها لن ينظروا إلى طريقك الشاق ومعاناتك حتى وصلت إلى الدرجة التي وصلت لها، بل إنهم سينظرون إلى أنك وصلت لهذه الدرجة وكفى، وكأن في حصولك على الدرجة التي وصلت إليها تهمة من الاتهامات.
وذلك لأنك تشعرهم أنهم كالحمار يحمل أسفارا، وأنهم لا يعقلون، وتذكرهم بحقيقة أمرهم بأنهم غير مؤهلين للحصول على الدرجة التي وصلت لها.
فإن في الوصول إلى النجاح بمفردك أو وصولك له في وقت قصير شعور بالقهر منهم، ولا يتصور حجمه، فأنت يا أخي بالنسبة لهم قد فعلتها.
السبب الثالث: رؤيتهم لك بأنك لا تستحق تلك المكانة سواء قبل المنحة أو بعدها.
وهناك طائفة يروا أنك لست أهلا للمنح وأنك لا تستحق إلا المحن.
وهذا راجع إلى صورتك الماضوية بأنك لست سوى امرؤ لا يأبه به لفشله أو لفقره أو لعاهته.
السبب الرابع: عدم محبته لمساواتك له أو لأحد من أقربائه.
بمعنى أنه أعلى من أن يكون له نظير، فأنت أحقر من أن تصل إلى درجته، أو أن تصل لدرجة أحد من أقرباءه، فمن أنت لكي تجلس بجواري وأعاملك بمودة ولطف؟
إنك أقل من ذلك بكثير.
السبب الخامس: تصورهم الخاطئ لصفاتك ورغباتك.
بمعنى أنهم يتصورن عنك أشياء ليست من طباعك ولن تكون، فهم يعتمدون على استقراء ناقص وحكم خاطئ في كيفية التعامل معك.
النتيجة من كل ذلك
لقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن خلاصة ما ينبغي أن تقوم به من أفعال سواء في المنح أو المحن.
فإن أصابتك منحة فاصبر واعمل صالحا وإن أصابتك محنة فاصبر واعمل صالحا.
قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}. (3)
فالجأ إلى الله، واستأنف طريقك، تسعد وتفوز، وتنتصر على كل هؤلاء، فما هم إلا وَهْم يدخل باطنك، فيثنيك عن طريقك، فإن لم تأبه به واستأنفت طريقك، تجدهم قد استسلموا للحقيقة في نهاية المطاف.
الخاتمة
إن المحن والمنح متعاقبان كالليل والنهار، وليسا دائمان، ولذلك اصبر واعمل صالحا تكن أسعد الناس، وأقوى من الجميع، لأنك إن صبرت وعملت صالحا فاعلم أن الله عز وجل سينصرك نصرا عزيزا، وكان حقا على الله نصر المؤمنين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه: إبراهيم محمد إبراهيم الصياد.
حرر بعد عصر الثلاثاء الموافق:
1 رجب 1441 هـ.
25 فبراير 2020 م.
17 أمشير 1736 ق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) {سورة هود: 10}.
(2) {سورة هود: 9}.
(3) {سورة هود: 11}.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شوقي رائد المسرحية الشعرية في أدبنا العربي الحديث

  المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على المصطفى خير المرسلين، وشفيع ال...